جامعة القاهرة والجامعة النيروجيكية: نحو نموذج جديد للتعليم في مصر

قال الأستاذ الدكتور أبو العلا عطيفى حسنين
الأستاذ بكلية الحاسبات والذكاء الاصطناعي – جامعة القاهرة ومؤسس ورئيس المدرسة العلمية البحثية المصرية :
يشهد التعليم العالي في مصر تغيرات سريعة بفعل الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي، حيث لم يعد التعليم مجرد نقل للمعرفة من الأستاذ إلى الطالب، بل أصبح بيئة معرفية ديناميكية تُعاد فيها صياغة العلاقة بين الإنسان والمعرفة والتكنولوجيا. وفي هذا الإطار، تمثل جامعة القاهرة نموذجًا أوليًا لتجربة "الجامعة النيروجيكية"، التي لا تكتفي بتدريس المحتوى، بل تسعى إلى إعادة هندسة الإدراك باستخدام أدوات رقمية متقدمة .
في هذا النموذج، يتحول الطالب من متلقٍ سلبي إلى محور العملية التعليمية، حيث يُعاد تشكيل مساره المعرفي باستمرار من خلال التفاعل مع المنصات الذكية والخوارزميات وأنظمة التقييم المستمرة. التعليم هنا لم يعد مجرد تلقين، بل أصبح عملية لتكوين الذات، تعتمد على فهم أسلوب التفكير والاهتمامات الفردية لكل طالب. وباستخدام أدوات القياس والتحليل، يُصمم لكل طالب مسار تعليمي خاص يعكس قدراته الفعلية، مما يساهم في تجاوز مشكلات التكدس وتفاوت مستويات التحصيل، ويجعل التعليم أكثر عدالة وفعالية .
البيانات في هذا السياق لم تعد مجرد وسيلة لتقييم الأداء، بل أصبحت أداة تعليمية بحد ذاتها. يتم جمعها من كل تفاعل يقوم به الطالب، وتحليلها للكشف عن نقاط القوة والضعف، ثم استخدامها لتخصيص المحتوى التعليمي بما يتناسب مع احتياجاته. وهذا يفتح المجال لربط الطالب بمسارات مهنية واقعية، ويمنحه فرصة للمشاركة الفاعلة في إنتاج المعرفة وتطبيقها .
الذكاء الاصطناعي يلعب دورًا محوريًا في هذا النموذج، حيث يساعد في توجيه الطالب نحو التخصصات المناسبة، ويتابع تطوره لحظة بلحظة، ويقدم للأساتذة توصيات لتحسين طرق التدريس. كما يساهم في تصميم المناهج بشكل مرن يتكيف مع احتياجات السوق والطالب معًا، مما يساعد على تقليل الفجوة بين التعليم وسوق العمل.
الجامعة في هذا التصور لم تعد مكانًا تقليديًا، بل أصبحت فضاءً رقميًا عالميًا. يمكن للطالب أن يحضر محاضرات دولية، ويشارك في أبحاث مع زملاء من مختلف الدول، ويتفاعل مع خبراء عالميين، وكل ذلك من داخل قاعة دراسته أو من منزله. هذا التحول يجعل الجامعة المصرية جزءًا من شبكة معرفية عالمية، ويمنح الطالب فرصة أن يكون منتجًا للمعرفة لا مجرد مستهلك لها .
هذا النموذج يطرح أيضًا تساؤلات فلسفية وأخلاقية مهمة. منها كيف نحافظ على حرية الطالب في بيئة تُقاس وتُراقب باستمرار؟ وهل يمكن أن تتحول أدوات القياس إلى وسيلة للهيمنة بدلًا من التمكين؟ إن نجاح هذا النموذج لا يعتمد فقط على التكنولوجيا، بل على قدرتنا على إعادة تعريف الإنسان داخل المنظومة التعليمية، باعتباره كائنًا إدراكيًا حرًا يمتلك القدرة على التفكير والاختيار .
الجامعة النيروجيكية يجب أن تعترف بتعدد الذات المتعلمة، لا أن تختزلها في مؤشرات رقمية أو بروفايلات جامدة. يجب أن تكون فضاءً يتيح لكل طالب اكتشاف ذاته وإعادة تشكيلها باستمرار، وأن يكون دور التكنولوجيا مساعدًا على التوسع في المدارك، لا أداة لفرض هوية معرفية جاهزة.
نجاح التعليم في مصر وفق هذا النموذج يتوقف على تحقيق التوازن بين القياس الرقمي والحرية الإنسانية، وبين الاستفادة من الذكاء الاصطناعي والحفاظ على جوهر الإنسان كفاعل معرفي مستقل. وإذا تحقق هذا التوازن، فإن الجامعة النيروجيكية ستكون أداة للتحرر والإبداع، لا مجرد نظام لإعادة إنتاج أنماط معرفية مكررة .
وفي هذا السياق، تبرز جامعة القاهرة بوصفها أكثر من مجرد مؤسسة تعليمية عريقة؛ إنها منصة مستقبلية لإعادة هندسة الذات المتعلمة في مصر. فبفضل بنيتها البحثية، ورؤيتها الاستراتيجية للذكاء الاصطناعي، وانفتاحها على التحولات الرقمية، تمتلك القدرة على أن تكون النموذج الرائد في تبني هذا التحول الإدراكي .
إن مستقبل التعليم العالي لن يُكتب فقط في قاعات الدرس، بل في المختبرات الفكرية التي تعيد صياغة الإدراك، وتُعيد تعريف الطالب ككائن معرفي حر. وكما يقول ميشيل فوكو: "المعرفة ليست مجرد انعكاس للواقع، بل أداة لإنتاجه وإعادة تشكيله." وإذا أصبحت الجامعة قادرة على إنتاج الذات المعرفية، فإنها تتحول من ناقل للمعرفة إلى خالق للوعي.
ويؤكد جون ديوي أن "التعليم ليس استعدادًا للحياة، بل هو الحياة ذاتها"، وهو ما تجسده الجامعة النيروجيكية، حيث يصبح التعليم عملية مستمرة لإعادة تشكيل الذات. أما باولو فريري فيقول: "التعليم إما أن يكون أداة لتحرير الإنسان، أو وسيلة لتكريس الهيمنة عليه"، وهنا يظهر التحدي الحقيقي: أن تكون أدوات القياس والذكاء الاصطناعي وسيلة للتمكين لا للضبط، وللتحرر لا للتطابق .
وإذا نجحت جامعة القاهرة في احتضان هذا النموذج، فإنها لن تكون فقط جامعة وطنية، بل مركزًا عالميًا لإنتاج الذات المعززة، ومختبرًا فلسفيًا لتجريب مستقبل التعليم في عصر الإدراك الرقمي. وكما قال ألبرت أينشتاين: "لا يمكننا حل مشاكلنا بنفس العقلية التي أوجدتها"، فإن تبني الجامعة النيروجيكية هو دعوة لتغيير العقلية، وإعادة تعريف التعليم من جذوره، ليصبح أداة لإعادة تشكيل الإنسان في زمن تُعاد فيه صياغة الإدراك ذاته .