انفراد خاص: النجم الأردني منذر رياحنه يفتح صندوق ذكرياته بهذه الذكرى... الفن لا يموت وشوقي الماجري شاهد على ذلك في ذاكرة منذر رياحنه وكلماته

في انفراد خاص يليق بواحد من أكثر نجوم الأردن صدقًا وإنسانية، فتح الفنان الكبير منذر رياحنه صندوق ذكرياته هذه المرة ليخرج منه لحظة مفعمة بالحنين والشجن، لحظة لا تتكرر ولا تُنسى، حين قرر أن يوجّه رسالة مؤثرة إلى روح المخرج التونسي الراحل شوقي الماجري في ذكرى رحيله، ليؤكد أن الفن لا يموت، وأن الذاكرة قادرة على أن تبقي الأحبة أحياء ما دام الإخلاص يسكن القلب. جاءت كلمات رياحنه عبر حساباته الرسمية على مواقع التواصل الاجتماعي كأنها مشهد سينمائي صادق يخلو من التمثيل ومليء بالعاطفة، حيث كتب مخاطبًا الراحل قائلاً: "إلى شوقي الماجري، الله يرحمه، المخرج الكبير، الصديق الأقرب، والوالد الذي علّمني كيف يكون للفن روح، وأن الإنسان أعظم من أي دور، زرعت فينا الشغف، علّمتنا أن الصورة روح، وأن الصدق في الأداء ليس تمثيلًا بل حياة تُعاش أمام العدسة، رحلت جسدًا، لكنك تركت فينا صوتًا يهمس في كل مشهد أن الفن مسؤولية، وأن الصدق هو البطولة الحقيقية… سلامٌ لروحك الطاهرة يا من بقيت حاضرًا رغم الغياب، سلام يا با..."، كلمات خرجت من القلب، فلم تكن مجرد نعي، بل كانت وعدًا بالاستمرار، عهدًا من تلميذ إلى معلمه، ومن فنان إلى من زرع فيه الإيمان بأن الفن حياة، وأن العمل الصادق لا يُنسى.
في تلك اللحظة التي نشر فيها منذر رياحنه كلماته، عادت ذاكرة المتابعين إلى سنوات مضت حين جمعته بالشوقي الماجري أعمال خالدة صنعت جزءًا من تاريخ الدراما العربية، وأعادت للوجدان العربي صورة الفن النقي، الفن الذي يحمل رسالة ويمتد أثره عبر الزمن. علاقة رياحنه بالماجري لم تكن مجرد تعاون فني بين ممثل ومخرج، بل كانت علاقة إنسانية عميقة جمعت بين الأرواح قبل العدسات. فقد وصفه منذر في أكثر من لقاء بأنه "الأب والمعلم"، الرجل الذي اكتشف فيه ما لم يره الآخرون، وحرّض فيه الفنان الحقيقي ليخرج من داخله بلا خوف أو تكلّف، مؤكّدًا أن شوقي لم يكن يخرج المشهد بالكاميرا فقط، بل بقلبه، وأن كل لقطة كان يصنعها كانت تحمل معنى، ورؤية، ورسالة.
تعاون الاثنان في أعمال درامية أصبحت علامات مضيئة في تاريخ الدراما العربية، مثل "أبناء الرشيد"، و"أبو جعفر المنصور"، و"توق"، إلى جانب العمل الأشهر "الاجتياح" الذي حمل توقيع الماجري وإبداع رياحنه في واحدة من أقوى أدواره، ذلك العمل الذي تجاوز حدود الدراما ليصل إلى العالم ويحصد جائزة الـ "إيمي أووردز" العالمية عام 2008، كأول عمل عربي ينال هذا التكريم المرموق، في لحظة شكلت فخرًا للعرب أجمعين. كان الماجري وقتها يقف على المسرح بابتسامته الهادئة، بينما في عينيه بريق طفل أدرك أن الفن الحقيقي قادر على الوصول إلى كل قلب مهما ابتعدت المسافات. تلك اللحظة ظلّت محفورة في ذاكرة منذر، لأنها لم تكن انتصارًا لشوقي فقط، بل للفن العربي كله، ولجيل آمن أن الفن لا يُقاس بعدد المشاهدين بل بعمق الأثر.
يقول منذر في أحد أحاديثه القديمة، التي تعود إلى فترة ما قبل رحيل الماجري، إنه كان دائمًا يشعر أن هذا الرجل يحمل رسالة أكبر من مجرد إخراج مسلسل أو تصوير مشهد، بل كان يعيش الفن كدين، كحياة، كبحث دائم عن الحقيقة في وجه الزيف، عن الصدق في زمن التمثيل. لذلك حين رحل شوقي، لم يرحل فنه، ولم تغب بصمته، لأن كل من عمل معه يحمل داخله شيئًا منه، شيئًا من هدوئه، من رؤيته، من طريقته الخاصة في تحويل الورق إلى مشاعر حقيقية.
اللافت أن كلمات منذر الأخيرة لم تمر مرور الكرام، فقد تفاعل معها جمهور واسع من مختلف الدول العربية، وانهالت التعليقات التي تحمل نفس النغمة المؤثرة، فالجميع تذكّر المخرج الكبير الذي غيّبته الأيام جسدًا لكنه بقي حاضرًا بروحه في ذاكرة كل من عرفه أو شاهد أعماله. الجمهور استعاد مشاهد من "الاجتياح"، وكيف استطاع الماجري أن يقدّم مأساة وطن بأسلوب إنساني جعل الجميع يبكي دون أن يدرك أنه أمام تمثيل، بل أمام حياة تُعرض في لقطة.
الفن بالنسبة إلى منذر رياحنه لم يكن يومًا مهنة، بل حالة من الإيمان، وشوقي الماجري كان هو من زرع فيه هذا الإيمان. لذلك حين كتب "الفن لا يموت"، لم تكن جملة عابرة، بل كانت شهادة صادقة من فنان عاش التجربة بكل تفاصيلها، يعرف أن الأعمال العظيمة لا تموت لأن أصحابها يرحلون، بل تبقى لأنها خرجت من قلوب مؤمنة بأن الفن ليس ترفًا، بل هو شكل من أشكال الخلود.
وربما لم يكن غريبًا أن تكون كلماته الأخيرة "سلام يا با" هي الأصدق والأكثر إنسانية، لأن هذا النداء لم يخرج من فنان إلى مخرج، بل من ابن إلى أب، من إنسان ما زال يشعر أن معلمه يراقبه من بعيد بابتسامته الهادئة، فرحًا بما وصل إليه، ومطمئنًا أن الرسالة التي بدأها ستظل حيّة. لقد أثبت منذر رياحنه أن الوفاء لا يحتاج إلى مناسبة، وأن الذاكرة ليست مكانًا نحفظ فيه أسماء الراحلين، بل هي شاشة تُعرض عليها أجمل اللحظات التي علمتنا معنى الفن والصدق والحب في آنٍ واحد.