18:10 | 23 يوليو 2019

حين تتنفس الجبال من صمتها الأخير

10:35pm 17/11/25
نشأت البسيوني

هناك أرواح خلقت من صخر لا تهزها العواصف ولا تفرقها الفجوات ولا تسقطها الليالي السوداء أرواح تعلمت الوقوف بعد كل انكسار وعرفت أن الطريق لا يرحم وأن الدنيا ليست مكانا للضعفاء لكنها أيضا ليست سجنا للأقوياء بل امتحان طويل لليقين وصراع لا نهاية له بين ما نريد وما يستحق أن يكون

وتلك الأرواح يا صديقي لا تولد قوية

إنما تتكون من تراكم الهزائم من صبر فوق طاقة الصبر ومن تفاصيل لا يعرفها إلا من جرب أن ينكسر ثم يلملم نفسه دون أن يلمسه أحد

 

 حين يتكسر القلب دون أن يسمع له صوت

ليس كل صوت ضجيج

وليس كل صمت هدوء

هناك صمت يصرخ صمت يعوي صمت لو أمسكته بيدك لوجدته يتفتت مثل الزجاج البارد

هناك قلوب لا تنكسر أمام الناس لكنها تتبعثر في أعماق أصحابها كأوراق عطشى لم تصلها يد الخريف

وتكتشف يوما أنك لا تستطيع شرح ما حدث لك

لا لأن الآخرين لا يفهمون لكن لأنك أنت نفسك عاجز عن وصف الوجع الذي حدث

ذلك الوجع الذي لا يبوح

الذي لا يتكلم

الذي يبقى في الداخل مثل حجر ثقيل يحفر صدرك كل ليلة

 

 الطرق التي مشيناها وحدنا

تذكر حين كنت تمشي الطريق الذي لم يرافقك فيه أحد

تذكر تلك الليالي التي لم يكن فيها ضوء غير شاشة هاتف صامت أو ذهن منهك يحاول ترتيب فوضى الأيام

تذكر تلك اللحظة التي أدركت فيها أن العالم ليس كما ظننته وأن الناس ليسوا كما أحببت أن تراهم

هذه الطرق التي عبرناها أحرقت من أرواحنا أكثر مما تركته لكنها في الوقت نفسه صنعت فينا صلابة لا يستطيع أحد رؤيتها

كل خطوة وحيدة عبرناها

كانت تبني فينا جبلا

جبلا صامتا ثابتا مليئا بالندوب

لكن الجبال يا صديقي

لا تبكي لكنها تتنفس

وتنفسها وحده كفيل بأن يهز الأرض

 

 الوجوه التي مرت ولم تعد

في حياتنا وجوهٌ كثيرة

وجوه تظهر بزحمة الأيام ثم تتركنا على حافة صدمة لا نتذكر بعدها شيئا إلا كيف غادروا

بعضهم رحل لأنه لم يعرف قيمتك

وبعضهم رحل لأنه لم يعرف قيمته عندك

وبعضهم كان الرحيل خلاصه الوحيد من نفسه قبل أن يكون منك

لكن أسوأ الرحيل ذلك الذي يحدث بلا سبب

ذاك الذي يتركك تسأل نفسك

هل كنت سيئا هل أخطأت هل أنا السبب

وتبقى الأسئلة معلقة في الهواء بينما الحقيقة الوحيدة هي أن بعض الأشخاص لم يكونوا مستعدين لحبك كما أنت

 

 المدن التي بناها الحنين وهدمها الوقت

في داخل كل واحد منا مدينة

مدينة شوارعها من الذكريات وجدرانها من الأمنيات وليلها من الحنين

مدينة نسكنها دون أن نسكنها نزورها كلما أغمضنا أعيننا وننهار عندما نكتشف أنها لم تعد موجودة إلا في أذهاننا

تلك المدن لا تبقى

الوقت يهدمها والوجع يقتلع أساساتها واليأس يجفف أنهارها

لكن يبقى منها غبار خفيف نسحبه معنا في كل مكان يعلق بملابسنا يختبئ تحت جلدنا يتسلل إلى أعماقنا كلما حاولنا البدء من جديد

 

 خيانة الأيام للأحلام

كم حلما تركناه يتيما

كم فكرة قتلتها الظروف

كم بابا طرقناه ولم يفتح

كم خطوة أخذناها نحو مستقبل وصف لنا ثم اكتشفنا أننا لسنا جزءا منه

الأحلام تخون حين نصبح أكبر من أن نصدقها وأصغر من أن نتحمل موتها

لكن الحقيقة المؤلمة أن بعض الأحلام لم تكن أحلامنا أصلا

كانت أحلام غيرنا حملناها فوق أكتافنا حتى انحنت ظهورنا

وعندما سقطت من أيدينا

اكتشفنا أن سقوطها لم يكسرنا بل حررنا

 

 للخذلان شكل آخر لا يراه الناس

الخذلان ليس دائما صدمة

أحيانا يكون نظرة

أحيانا يكون جملة

أحيانا يكون موقفا عابرا لكنه يظل يطعننا حتى نكاد نصرخ

والأقسى من الخذلان أن تتظاهر بأن شيئا لم يحدث

أن تبتسم رغم أن نصف قلبك ينزف والنصف الآخر يحاول تجميع الدماء كي يظل ينبض

 

 عناق الروح لنفسها

بعد كل هذا

بعد المدن المنهارة والطرق الوحيدة والوجوه الراحلة والوجع الصامت

تكتشف أنك لم تعد بحاجة لمن ينقذك

تكتشف أنك أصبحت تعرف كيف تضع يدك على قلبك وتطمئنه

سننجو حتى وإن لم يبق أحد

تكتشف أن روحك التي كانت ترتجف

أصبحت قادرة على احتضان نفسها

وهنا يحدث التحول

وهكذا تتنفس الجبال

 

 النهوض من بين الرماد

لا أحد ينهض دفعة واحدة

النهضة ليست صرخة بل همسٌ طويل يتصاعد ببطء

تعود الحياة من أطراف أصابعك

من كلمة كنت قد نسيتها

من ضحكة لم تعرفها منذ زمن

من لحظة شعرت فيها أن وزنك لم يعد ثقيلا كما كان

تنهض لأنك تعبت من السقوط

تنهض لأنك جربت القاع ولم يعجبك

تنهض لأن داخلك صوتا صغيرا يقول

بعد كل هذا لا يمكن إلا أن تصعد

 

 القوة التي تخيفك حين تكتشفها

أخطر لحظة في حياة الإنسان ليست حين يضعف بل حين يكتشف أنه قوي

حين يعرف أنه قادر على أن يعيش دون من ظن أنه لا يستطيع العيش دونهم

حين يتعلم أن دموعه سلاح وليست هزيمة

حين يدرك أن كل ما فقده كان درسا وكل ما بقي كان نعمة

وهنا

تبدأ جباله في التمدد

تصبح أعلى أعمق أثقل

وتبدأ في التنفس بصوت يسمعه داخله فقط

 

 ولادة المعنى من قلب الفوضى

تصل في النهاية إلى تلك اللحظة الجليلة

اللحظة التي تفهم فيها أن كل شيء حدث ليصنعك

أن كل سقوط كان يدفعك خطوة نحو نفسك

أن كل خذلان كان يفتح لك بابا كنت ترفض رؤيته

أن كل وجع كان يزيل عن قلبك ما لا يستحق البقاء

 

عندها

لا تحت

اج إلى العالم ليمنحك معنى

لأن المعنى يولد فيك

كما تولد الجبال من باطن الأرض

وكما تتنفس الجبال من صمتها الأخير

تابعنا على فيسبوك

. .
paykasa bozum