18:10 | 23 يوليو 2019

عبدالحى عطوان يكتب : النافذة التى لا تغلق (جزء اول )

2:39pm 16/11/25
عبد الحى عطوان
عبدالحى عطوان

قبل أن يغلق حقيبته، توقّف لحظة ينظر إلى الأشياء التي اختار حملها معه: بضع صور قديمة، أوراق شاحبة الأطراف، وأجندة صغيرة كادت صفحاتها تتآكل من كثرة التقليب. كانت تلك الأجندة رفيقته منذ سنوات بعيدة، منذ الأيام التي بدأ فيها وعيه يفتح نوافذه على العالم، وحين أدرك للمرة الأولى حضورها في حياته.
تذكر فقد عاودته الذكريات في صباح هادئ من أيام المرحلة الثانوية، حين لمحها تعبر الشارع المواجه لمنزلهم. كانت تسير بخطوات واثقة، تحمل في يدها أكياس الفاكهة والخضروات، وفي اليد الأخرى هاتفًا لا ترفع عينيها عنه كثيرًا. لم تكن تعرف شيئًا عنه، ولم يدر في خلدها أن عينًا تتابع عبورها اليومي بدهشة لا تنطفئ. أما هو، فكان يشعر أن حركتها العابرة تركت في داخله أثرًا لا يشبه أي أثر آخر.فقد رسم لها صورة بذاكرته لا تختفى ملامحها ابدا ذلك القوام الممشوق والشعر الذى يتمايل على كتفيها أناقة ملابسها خطواتها التى تنم على شخصيتها 
ومنذ ذلك اليوم تحوّلت شرفة البيت إلى عالمه الأثير. كان يجلس فيها بالساعات، يترقب لحظة ظهورها كما يترقب المسافر صوت القطار الأول بعد ليل طويل. لم يكن يملك الشجاعة للاقتراب، ولم يكن يطمح إلى أكثر من رؤيتها تمضي في طريقها، كأنها العلامة الوحيدة الثابتة وسط تغيّرات كثيرة تحيط به.
وفي خلواته كان يمسك اجندته الصغيرة التى تلازمه دائما فقد كانت المساحة التى بجد فيها نفسه، بقلمه كتب عنها كثيرًا. كتب ما لم يستطع قوله، وما لم يُسمح له يومًا أن يبوح به. كان يمنحها أسماء مختلفة في أوراقه، لكنه لم يمتلك يومًا الجرأة ليسأل عن اسمها الحقيقي.
ومع مرور الأعوام، تغيّر كل شيء من حوله؛ فقد انتقل عبر مرحلته الجامعية فتبدلت أولوياته، رحل أصدقاء وجاء غيرهم، وازدادت مسؤولياته… إلا أن حضورها ظلّ ثابتًا لا يشيخ، كأنه جزء من ذاكرته لا يمكن نزعه دون أن ينهار ما حوله.
سارت الايام تحمل أحداثها وتراكماتها حتى كان ذلك الصباح، حين وقف أمام حقيبته المفتوحة، شعر بأن الوقت قد حان لطي صفحة طال بقاؤها مفتوحة. لم يكن متأكدًا إن كان يهرب من ماضيه، أو يسعى نحو ما هو أبعد من حدود شبّاك اعتاد الانتظار خلفه.
اقترب من نافذته الأخيرة، تطلّع إلى الشارع الخالي، واستمع لصمتٍ لم يعهده من قبل. ثم أغلق الشباك ببطء، كما يُغلق الإنسان بابًا ترك خلفه سنوات من صمتٍ وحلمٍ وحنين.
وللمرة الأولى، بدا له أن الرحيل قد يكون خطوة لا للهروب… بل للبحث عن نفسه التي ظلّت معلّقة عند تلك الشرفة لسنوات طويلة.
اقتربت خطواته ببطء من تلك الحقيبة تنازعه الأفكار يهمس إلى نفسه هل يهم بالرحيل ام ينتظر فقد تتبدل اوراق أجندته التى بدأ عليها الشحوب 
انتظرونا فى الجزء الثانى ....
 

تابعنا على فيسبوك

. .
paykasa bozum