حين أسدل القلب ستارته الأخيرة وتركني في العتمة وحدي
لم يكن موت قلبي حدثا صاخبا كما ترويه الروايات ولم يكن انهياره مشهدا دراميا يستحق البكاء عليه كان موتا هادئا صامتا كأنه تعب من الشكوى وتعب من التظاهر بالقوة فاختار أن ينام إلى الأبد دون أن يستأذنني
شعرت حينها أن شيئا في داخلي انطفأ ليس ضوءا بل نافذة كانت تطل على الحياة فإذا بها تغلق فجأة وتسدل ستائرها الثقيلة
لم يمت قلبي في لحظة واحدة بل مات على سنوات
سنة قضمها الخذلان
وأخرى سرقها الانتظار
وثالثة نزف فيها من كلمة
ورابعة انشق فيها من عبور أحدهم دون اكتراث
مات بالتدريج كأنه يتدرب على النهاية
حتى جاء اليوم الذي أدرك فيه أنه لم يعد له مكان في صدري ولا في عالمي ولا بين ضلوعي التي صارت تضيق به أكثر وأكثر
حملته كما تحمل الذكرى القديمة تلك التي لا تستطيع التخلص منها ولا تملك الشجاعة لتعيدها للحياة
أخذته إلى ركن مهجور داخل نفسي ركن لم أصل إليه منذ زمن مكان تتراكم فيه القصص التي لم ترو والآهات التي لم تسمع والأمنيات التي دفنت نفسها خوفا من أن تكسر
هناك وقفت أمام حفرة لم أحفرها بيدي بل حفرتها الأيام
ملت على قلبي برهة
حدقت في ملامحه المتعبة في نبضه المكسور في صمته الذي يشبه
نهاية فيلم طويل
لم أسمع منه شكوى
لم يمد يده لتتشبث بي
لم يسألني أن أنقذه
كان مستسلما كما لو أنه هو من يطلب الرحيل
فدفنته
دفنته كما تدفن الأشياء التي أحببناها أكثر مما يجب
دفنته دون دمعة لأن الدموع لم تعد تخرج
ودون صرخة لأن الصراخ صار عبثا
دفنته ثم غطّيته بطبقات من الذكريات بطبقات من الهدوء المزيف
بطبقات من وجوه تركت أثرا يشبه الندبة
ومنذ ذلك اليوم تغير كل شيء
لم أعد أشعر بما يشعر به الناس
لا يخترقني الحب ولا يخيفني الفراق ولا يشعلني الشوق
صرت أرى العالم بعين باردة وأسمع الكلمات دون أن تهز داخلي وأقف أمام المرآة كغريب يجهل ماذا خسر
أصبحت مخلوقا يمشي بعقل لا بقلب يخطو بثقل لا بلهفة يتحدث بوعي لا بعاطفة
لكن الليل
الليل يعرف كيف يستدرج الحقيقة
في أعمق لحظاته حين أضع رأسي على الوسادة وأغمض عيني أشعر بخفقة خفيفة بعيدة كأن القلب يمد يده من تحت التراب
كأنه يقول لي بصوت متكسر
أنا هنا رغم موتي
آه كم أخاف تلك الخفقة
أخاف أن تعود
أخاف أن ينتفض القلب من مرقده ليجرني من جديد إلى متاهات الحب إلى الطرق التي أضعت نفسي فيها إلى أبواب فتحتها ولم يكن خلفها أحد
أخاف أن أنهض كل يوم لأعيد دفنه من جديد ولا أجد لهذه النهاية
نهاية
ومع ذلك لا أنكر
هناك جزء مني يشتاق لعودته
جزء صغير ضعيف مختبئ يتمنى أن ينبض القلب فجأة أن يزيح التراب عن نفسه أن يعود كأن شيئا لم يكن
لكنّي لا أملك سوى الانتظار صامتا حذرا متوجسا
إلى أن يعود أو لا يعود تبقى الحقيقة ثابتة كحجر القبر
هناك في داخلي حفرة مظلمة
وفيها قلب سقط ومات ودفنته
وتركت فوقه كلمات لا يسمعها سواي
هنا دفنت أجمل ما كان في وما زلت أحاول أن أعيش بعده



















