"سعيد جمال الدين " يكتب : التراث الغذائي المصري.. هُوية تتعرض للسطو ونحن عنه غافلون!!

يُعد المطبخ المصري واحدًا من أقدم وأغنى المطابخ في العالم، إذ تمتد جذوره إلى آلاف السنين، منذ حضارة الفراعنة مرورًا بالعصور القبطية والإسلامية وحتى العصر الحديث.
هذا المطبخ الذي صاغته أيادي الأمهات وجدات المصريين عبر القرون، يحمل بين نكهاته تاريخًا وهويةً وذاكرة شعب.
إلا أن هذه الهوية تتعرض اليوم لخطر حقيقي يتمثل في السطو الثقافي والغذائي من بعض الدول المجاورة التي باتت تنسب لنفسها أكلات مصرية خالصة دون وجه حق.
من المؤسف أن نرى أطباقًا مصرية أصيلة مثل الطعمية، والعدس، والكشرى، والكشك الصعيدي، والبيصارة، والحواوشي وغيرها، تُقدم على موائد الآخرين وتُسجَّل بأسماء غير مصرية، بينما الجهات المعنية لدينا ما زالت تتعامل مع الملف برتابة بيروقراطية قاتلة، وكأن الأمر لا يعنيها، رغم ما يحمله من تهديد مباشر للهوية الثقافية والتراث غير المادي للأمة.
مسؤولية مشتركة... وتقصير مؤسسي فادح
إن حماية التراث الغذائي المصري ليست مسؤولية وزارة بعينها، بل هي واجب وطني مشترك يتطلب تضافر جهود عدة جهات؛ على رأسها وزارات السياحة والآثار، والثقافة، والتجارة والصناعة، إضافة إلى غرفة المنشآت والمطاعم السياحية، وغرفة الصناعات الغذائية باتحاد الصناعات المصرية، وجمعيات الطهي والذواقة المصرية.
هذه المؤسسات مطالَبة بوضع خطة قومية عاجلة لتوثيق وتسجيل المأكولات المصرية ضمن قوائم التراث الثقافي غير المادي بمنظمة اليونسكو، أسوة بما فعلته دول عديدة سبقتنا بخطوات واسعة في هذا المجال.
فبينما استطاعت دول عربية وآسيوية أن تسجل أطعمتها الوطنية مثل "الكسكسي" و"الحمص" و"المنسف" و"الكبسة" كتراث إنساني معترف به عالميًا، ما زالت الأكلات المصرية – رغم شهرتها وتنوعها الحضاري – غائبة عن هذه القوائم. والنتيجة أن الآخرين يسارعون إلى تسجيلها بأسمائهم، فيما نكتفي نحن بالشكوى والتفرج!
توثيق المذاق... دفاع عن الهوية
إن المأكولات ليست مجرد طعام يُؤكل، بل هي لغة ثقافية تعبّر عن وجدان الشعوب وتاريخها وبيئتها.
ومن هنا تأتي ضرورة توثيق الوصفات والأكلات المصرية علميًا وثقافيًا، عبر فرق بحث متخصصة تضم خبراء التراث والمؤرخين والطهاة، لتدوين هذه الكنوز الغذائية قبل أن تضيع في زحمة النسيان أو تُختطف من الآخرين.
كما يجب أن تنظم مصر فعاليات وورش عمل ومهرجانات للطعام التراثي، داخل البلاد وخارجها، تُعرّف العالم بنكهات المطبخ المصري الفريدة في الوجهين البحري والقبلي، وتبرز ثراءه وتنوعه عبر الأقاليم المختلفة، من ملوخية الدلتا إلى كشري القاهرة، ومن الكشك الصعيدي إلى السمك الإسكندراني.
حملة وطنية لحماية "مذاق مصر"
إن الحفاظ على الموروث الغذائي المصري يمثل مسئولية وطنية وثقافية لا تقل أهمية عن حماية الآثار والمعالم التاريخية. فكما نحافظ على الأهرامات وأبوالهول كمفاتيح لهويتنا الحضارية، علينا أن نحمي أكلاتنا الشعبية كجزء أصيل من هذه الهوية.
لقد آن الأوان لإطلاق مبادرة وطنية شاملة لتسجيل المأكولات المصرية في قوائم التراث اللامادي لليونسكو، تحت شعار: "احمِ طعامك... تحمِ تاريخك!"
هذه المبادرة يجب أن يقودها تعاون مؤسسي فعّال بين الوزارات المعنية والاتحاد العام للغرف السياحية واتحاد الصناعات وجمعيات الطهاة، لتتحول من مجرد دعوات نظرية إلى خطة عمل ملموسة تضع مصر في مكانها المستحق على خريطة التراث الغذائي العالمي.
كلمة أخيرة... قبل فوات الأوان
ليس من المقبول أن تظل مصر، صاحبة أقدم مطبخ في التاريخ، خارج قوائم التراث الغذائي العالمي، بينما تتسابق دول أخرى لتسجيل ما هو أقل تنوعًا وعمقًا.
إن التراخي والتقاعس من بعض الجهات الرسمية في هذا الملف يفتح الباب واسعًا أمام الآخرين للسطو على ما هو مصري، ونسبه لأنفسهم في المحافل الدولية.
التحرك اليوم أصبح واجبًا وطنيًا عاجلًا، لأن الحفاظ على التراث الغذائي ليس ترفًا، بل هو دفاع عن الهوية المصرية في وجه العولمة والسطو الثقافي.
فلنحمِ طعامنا... كما نحمي تاريخنا.