حين يتواطأ الصمت مع الضجيج بقلم/نشأت البسيوني
في زمن يمتلئ بالكلام الى حد الاختناق يصبح الصمت هو اللغة الاكثر حضورا لا صمت الهدوء ولا صمت التأمل بل صمت التواطؤ الصمت الذي يولد حين يعرف الانسان الحقيقة لكنه يختار ان يمر بجوارها دون ان يلمسها حين يرى الخطأ واضحا لكنه يقنع نفسه ان التدخل ليس من شأنه هكذا يتشكل عالم كامل من الاصوات العالية والقلوب الصامتة عالم يبدو صاخبا من الخارج لكنه فارغ من
الداخل الناس تتحدث كثيرا عن كل شيء الا عما يوجع حقا يملأون الوقت بآراء سريعة وتعليقات جاهزة ويتجنبون الاسئلة الثقيلة التي تحتاج شجاعة يختبئون خلف الزحام لان الزحام يمنحهم شعورا زائفا بالامان طالما الجميع يتكلم فلا احد مطالب بان يقول شيئا حقيقيا وطالما الجميع يشاهد فلا احد مسؤول عما يحدث
الصمت هنا لا يعني الهدوء بل يعني التراجع يعني ان يتنازل
الانسان عن دوره الانساني قطعة قطعة دون ان يشعر ان يعتاد المرور بجوار الظلم دون ان يتوقف وبجوار الالم دون ان يسأل وبجوار الخطأ دون ان يعترض يتعلم مع الوقت ان الصمت اسهل وان السلامة في الانسحاب وان النجاة الفردية اهم من الحقيقة المشتركة ومع كل مرة يصمت فيها يخسر شيئا لا يلاحظه فورا يخسر قدرته على الدهشة يخسر حساسيته تجاه الخطأ يخسر
شجاعته في ان يكون مختلفا حتى يصبح الصمت جزءا من شخصيته لا مجرد موقف مؤقت يتحول من انسان كان له رأي الى انسان يكرر ما يسمعه ومن انسان كان يسأل الى انسان يكتفي بالمشاهدة الاخطر من الصمت الفردي هو الصمت الجماعي حين يتفق الكثيرون دون اتفاق معلن على الا يروا ما يرونه فعلا هنا لا يحتاج الخطأ الى دفاع ولا يحتاج الظلم الى تبرير يكفي فقط ان لا
يعترض احد يكفي ان يمر الامر كأنه طبيعي ومع الوقت يصبح غير الطبيعي مألوفا ويصبح الاعتراض فعلا غريبا في هذا العالم يتعلم الانسان ان يخفف صوته حتى لا يزعج وان يؤجل كلمته حتى لا يخسر وان يساير حتى لا يبقى وحيدا لكنه لا ينتبه ان ما يخسره اكبر من ذلك يخسر نفسه يخسر احترامه الداخلي يخسر شعوره بالمعنى لان المعنى لا يعيش في منطقة الصمت بل في المساحة
التي يواجه فيها الانسان ما يعرفه حقا ومع ذلك يبقى الامل معلقا بتلك اللحظة الصغيرة التي يقرر فيها شخص واحد ان يكسر الصمت لا بخطاب طويل ولا بصوت عال بل بكلمة صادقة في وقتها لان الكلمة الصادقة لا تحتاج ضجيجا تحتاج فقط شجاعة تحتاج انسانا يفضل الحقيقة على الراحة ويختار المعنى على السلامة وحين يحدث ذلك يتغير شيء في الهواء كأن الصمت يفقد قوته كأن
الضجيج يتراجع خطوة الى الخلف يدرك الناس ان الكلام لم يكن مستحيلا بل كان مؤجلا وان الصوت الذي ظنوه خطرا كان في الحقيقة نجاة وهكذا لا ينهار الصمت الجماعي دفعة واحدة بل يتشقق مع كل انسان يقرر ان يكون حاضرا لا متفرجا ومع كل لحظة يختار فيها الصدق بدلا من التواطؤ لان العالم لا يتغير بكثرة الكلام بل بندرة الكلمة الصادقة حين تقال في وقتها وبقلب لا يخاف ان يكون مختلفا



















