جنة الدجال الرقمي: كيف أصبحت حياتنا مكشوفة أمام فيسبوك

لم يعد السؤال اليوم: هل بياناتنا في أمان؟ بل أصبح: إلى أي مدى صارت حياتنا كتابًا مفتوحًا أمام الخوارزميات؟
نحن نعيش زمنًا تتداخل فيه التقنية مع تفاصيلنا الحميمة إلى حد يجعلنا نتصوّر أحيانًا أن فيسبوك يقرأ أفكارنا أو يتجسس على همساتنا الخاصة. فالإعلانات التي تطاردنا بعد محادثة عابرة، والمنشورات التي تظهر فجأة وكأنها انعكاس لما يدور في عقولنا، كل ذلك يثير الشكوك ويغذّي الإحساس بأن الخصوصية لفظت أنفاسها الأخيرة.
وهم قراءة الأفكار… حقيقة وراء الستار
كثيرون يروون تجاربهم: يتحدثون عن هاتف جديد، أو سفر إلى مدينة بعيدة، أو حتى رغبة شخصية لم يعلنوها، ثم يجدون الإعلان المناسب أمام أعينهم خلال ساعات. هل الأمر محض صدفة؟
الحقيقة أن فيسبوك لا يملك قدرة سحرية على قراءة العقول، لكنه يملك ما هو أخطر: خوارزميات تتغذى على كل ما تفعله، وتبني صورة عنك أقرب إلى نسخة رقمية لذاتك. هذه النسخة ليست خيالية، بل واقعية إلى درجة أنها تتنبأ بما قد تفكر فيه، قبل أن تعلن نيتك صراحة.
كيف تُبنى النسخة الرقمية منك؟
1. كل حركة محسوبة: من ضغطة الإعجاب إلى مدة التوقف أمام فيديو قصير، كلها إشارات يتم تخزينها وتحليلها.
2. بصمات خارج المنصة: عبر مواقع الشراء والتطبيقات المرتبطة، يجمع فيسبوك بيانات عن سلوكك حتى بعيدًا عن صفحته الزرقاء.
3. خرائط العلاقات: الأصدقاء، المجموعات، الأحداث، والدوائر الاجتماعية، تكشف عن اهتماماتك وخياراتك المستقبلية.
4. تحليل العواطف: المحتوى الذي تتفاعل معه يكشف عن حالتك المزاجية، ويمنح الخوارزمية فرصة للتأثير على مشاعرك.
بهذا الشكل، لا تحتاج المنصة إلى سماعك، فهي تمتلك بالفعل نسخة شبه كاملة منك قادرة على التنبؤ بخطواتك التالية.
من الإعلان إلى التلاعب بالمشاعر
قد يظن البعض أن المسألة تقف عند حدود الإعلانات الموجهة، لكنها أبعد من ذلك. تجربة فيسبوك الشهيرة عام 2014 أثبتت أن المنصة تستطيع تغيير مزاج المستخدمين عبر تعديل ما يظهر لهم في الـFeed. إذا أرادت أن تجعلك أكثر حزنًا أو فرحًا، فكل ما تحتاجه هو التحكم في نوعية المنشورات أمامك.
وهنا تكمن الخطورة: لم تعد الخصوصية فقط في خطر، بل الوعي نفسه معرض للتلاعب. فبضغطة زر، يمكن أن تتبدل رؤيتك للعالم من حولك.
موت الخصوصية… ميلاد جنة زائفة
نعيش اليوم في عالم يشبه “الجنة الزائفة”؛ كل شيء متاح بضغطة، الأخبار تصل فورًا، الأصدقاء دائمًا على بُعد رسالة، لكن الثمن فادح: حياتنا لم تعد ملكًا لنا.
لقد تحولت الخصوصية إلى سلعة تُباع وتشترى في أسواق الإعلانات الرقمية. وأصبح الإنسان مجرد “ملف بيانات” تُستغل رغباته وانفعالاته لأغراض تجارية أو سياسية.
بين الحرية والرقابة
الخوف لم يعد من أجهزة المخابرات التقليدية، بل من شركات وادي السيليكون التي تعرف عنك أكثر مما تعرفه حكومتك. والفرق الجوهري أن هذه الشركات لا تخضع لرقابة ديمقراطية حقيقية، بل تعمل وفق منطق السوق والربح فقط.
وهكذا، ينهار جدار الخصوصية الذي كان يومًا حقًا أساسيًا من حقوق الإنسان، ليصبح وهمًا رقميًا لا وجود له إلا في الذاكرة.
---
من المسؤول؟
الشركات التقنية: التي ضحّت بمفهوم الخصوصية من أجل إعلانات موجهة بدقة غير مسبوقة.
الحكومات: التي عجزت أو تواطأت في مواجهة تغوّل المنصات الرقمية.
المستخدمون أنفسهم: الذين تهاونوا في مشاركة أدق تفاصيل حياتهم، ثم تفاجؤوا بالنتائج.
---
كيف نواجه الواقع الجديد؟
رغم صعوبة المشهد، لا يزال بالإمكان تقليل الخطر:
1. مراجعة الإعدادات: ضبط الخصوصية وحذف النشاطات الخارجية المسجلة.
2. التحكم في الأذونات: منع التطبيقات من الوصول إلى الكاميرا أو الميكروفون إلا عند الحاجة.
3. أدوات الحجب: استخدام إضافات تمنع التتبع والإعلانات الموجهة.
4. التربية الرقمية: نشر وعي مجتمعي يحذر من الإفراط في مشاركة المعلومات.
5. تشريعات صارمة: الضغط من أجل قوانين دولية تحمي المستخدم من تغوّل الشركات.
والختام فيسبوك لا يقرأ أفكارك، لكنه يقرأ كل ما حولها: أفعالك، كلماتك، أصدقاؤك، وحتى صمتك. ومع تزايد قوة الذكاء الاصطناعي، يصبح الفاصل بين التنبؤ والتحكم رقيقًا للغاية.
لقد ماتت الخصوصية فعلًا، وما نعيشه الآن هو اختبار قاسٍ: إما أن نستعيد زمام المبادرة ونضع حدودًا واضحة للتكنولوجيا، أو نستسلم لـ“جنة الدجال الرقمي” حيث كل شيء مُتاح، لكن الحرية الحقيقية لم تعد موجودة.