الإيجارات القديمة.. نحو عدالة قانونية لا تهدم الاستقرار الاجتماعي

في كل مرة يُطرح فيها ملف الإيجارات القديمة على طاولة التشريع، يُثار الجدل بين حق المالك في استعادة ملكه، وحق المستأجر في السكن والاستقرار. وبين المظلومية الحقيقية لكثير من الملاك، والمخاوف المشروعة لكثير من المستأجرين، يبقى السؤال: هل يمكن صياغة قانون يُنصف الطرفين دون أن يُشعل فتيل أزمة اجتماعية؟
مشروع القانون الجديد بشأن الإيجارات القديمة، كما تسرب إلى الإعلام، يطرح حلاً جذريًا عبر مدد انتقالية قصيرة (5 إلى 7 سنوات)، وزيادات كبيرة في الإيجار، وانتهاء العلاقة الإيجارية بعدها نهائيًا. لكن، المشكلة ليست فقط في مضمون القانون، بل في طريقة صياغته وفلسفته: هل نُعالج الخلل القانوني بعدم دستورية قديمة عبر ظلم جديد؟ وهل نُصحّح وضعًا تاريخيًا خاطئًا بخلق وضع اجتماعي مأزوم؟
إصلاح لا انتقام
من حق المالك أن يطالب بعائد عادل، خاصة بعد عقود من تثبيت القيمة الإيجارية لدرجة أصبحت معها “إيجارات قديمة” عنوانًا للسخرية. لكن، الملكية في القانون ليست مطلقة، بل تقيدها الوظيفة الاجتماعية، خاصة حين تكون مرتبطة بالسكن. فهل يجوز إخراج أسرة من منزلها لمجرد أن العقد قديم؟ هل نُعامل من سكن ثلاثين عامًا وكأن بقاءه مؤقت أو طارئ؟
القانون المقترح يتجاهل حكم المحكمة الدستورية العليا عام 2002، الذي أكد أن العلاقة الإيجارية الممتدة لا يجوز إنهاؤها بشكل تعسفي، كما أن مشروع القانون قد يصطدم بالمادة 78 من الدستور، التي تضمن الحق في السكن الكريم والآمن.
مقترح لحل توافقي
الحل لا يكمن في الإخلاء الإجباري، بل في مقاربة ثلاثية الأبعاد:
1. تدرج زمني أطول: تمديد الفترات الانتقالية إلى 10 سنوات على الأقل للوحدات السكنية، و7 لغير السكنية، مع زيادة تدريجية في القيمة الإيجارية ترتبط بالتضخم ومستوى المنطقة.
2. بدائل سكنية واقعية: الدولة مسؤولة عن توفير بدائل حقيقية للمستأجرين من محدودي الدخل، سواء عبر الإيجار أو التمليك المدعوم.
3. تعويض الملاك بعدالة: عبر إعفاءات ضريبية، أو قروض ترميم مدعومة، أو تعويض مادي مقابل الإخلاء الطوعي.
نحو حوار مجتمعي لا تشريع فوقي
لا يمكن صياغة قانون بهذا التأثير دون حوار مجتمعي واسع يضم ممثلين عن الملاك، المستأجرين، المجتمع المدني، الهيئات القضائية والدستورية. فالتشريع الجيد لا يُفرض من فوق، بل يُبنى على توافقات واقعية تراعي الكرامة الإنسانية والعدالة القانونية معًا.
إن الإصلاح الحقيقي في ملف الإيجارات القديمة لا يُقاس بعدد الوحدات المُخلاة، بل بعدد الأسر التي تم الحفاظ على استقرارها، والملاك الذين استعادوا حقوقهم دون عداء.
العدالة لا تعني أن يأخذ طرف كل شيء ويخسر الطرف الآخر كل شيء، بل أن يشعر الجميع أن القانون يحترمهم، ويحميهم، وينصفهم.