سامي البارودي: فارس الكلمة وسيف الإصلاح

في خضم تحولات سياسية واجتماعية عاصفة شهدتها مصر في القرن التاسع عشر، بزغ نجم شخصية فذة جمعت بين صلابة الفارس ورقة الشاعر، إنه محمود سامي البارودي، الذي ولد في السادس من أكتوبر عام 1838، ليصبح رمزًا للوطنية والإصلاح وواحدًا من أبرز رواد النهضة الأدبية الحديثة في العالم العربي.
ينتمي البارودي إلى أسرة ذات جذور تركية عريقة، تقلدت مناصب هامة في الجيش والإدارة المصرية. نشأ في بيئة أرستقراطية مرفهة، وتلقى تعليمًا متميزًا شمل العلوم العسكرية واللغة العربية والفرنسية والتركية والفارسية. شغفه بالشعر بدأ مبكرًا، حيث نهل من دواوين كبار الشعراء العرب، وتأثر بجمال اللغة وقوة البيان.
التحق البارودي بالجيش المصري، وترقى في صفوفه حتى وصل إلى رتبة لواء. شارك في العديد من الحملات العسكرية، وأظهر شجاعة وإقدامًا جعلاه محل تقدير واحترام. إلا أن طموحاته لم تتوقف عند المجال العسكري، فقد كان يرى بعين المثقف الواعي ما تعانيه مصر من تدخل أجنبي وتدهور في الأوضاع السياسية والاجتماعية.
انخرط البارودي في الحركة الوطنية المتنامية، وأصبح من أبرز قادتها. آمن بضرورة الإصلاح الدستوري وإقامة نظام نيابي يشارك فيه الشعب في حكم بلاده. لعب دورًا محوريًا في تأسيس "حزب الأمة"، الذي دعا إلى تحقيق الاستقلال الوطني والعدالة الاجتماعية.
بلغت مسيرة البارودي السياسية ذروتها بتوليه منصب رئيس الوزراء ووزير الحربية في حكومة عرابي باشا عام 1882، وهي الحكومة الوطنية التي سعت إلى تحقيق مطالب الشعب وإبعاد النفوذ الأجنبي. إلا أن هذه التجربة الوطنية الوليدة لم تستمر طويلًا، حيث انتهت بالاحتلال البريطاني لمصر بعد معركة التل الكبير.
دفع البارودي ثمن مواقفه الوطنية غاليًا، حيث حكم عليه بالإعدام، ثم خُفف الحكم إلى النفي لمدة سبعة عشر عامًا في جزيرة سيلان (سريلانكا حاليًا). لم تثنه سنوات المنفى القاسية عن مواصلة نضاله بالقلم، فكان شعره في المنفى مرارة الفراق وحنينًا للوطن، ولكنه أيضًا كان لهبًا يوقد جذوة الوطنية في قلوب المصريين.
عاد البارودي إلى مصر عام 1899 بعد صدور عفو عنه، واستقبل استقبال الأبطال. استأنف نشاطه الأدبي والفكري، وأصبح مرجعًا للجيل الجديد من الشعراء والأدباء الذين نهلوا من تجربته الثرية.
تميز شعر البارودي بقوة الأسلوب وجزالة اللفظ وعمق المعنى. استلهم التراث الشعري العربي الأصيل، وطوره ليواكب قضايا عصره. تناول في شعره موضوعات الوطنية والحرية والإصلاح الاجتماعي، كما عبر عن مشاعره الإنسانية الصادقة. يعتبر البارودي رائدًا للمدرسة الكلاسيكية الحديثة في الشعر العربي، التي أحيت القيم الفنية الرفيعة للشعر القديم مع الانفتاح على قضايا العصر.
رحل فارس الكلمة وسيف الإصلاح عن عالمنا في الثاني عشر من ديسمبر عام 1904، تاركًا إرثًا أدبيًا وسياسيًا عظيمًا. لقد كان البارودي شاعرًا وطنيًا صادقًا، ومصلحًا اجتماعيًا جريئًا، وقائدًا فذًا آمن بقوة الكلمة في تغيير الواقع. ستبقى سيرته العطرة نبراسًا للأجيال القادمة، وشاهدًا على عظمة الرجال الذين وهبوا حياتهم لرفعة أوطانهم.