زمن لا ينتظر أحدا
الوقت ليس رقما على ساعة ولا تاريخا على ورقة بل كائن خفي يتحرك معنا وعلينا في آن واحد لا نراه لكنه يترك أثره في كل شيء في الوجوه في الأصوات في الأحلام التي كبرت قبل أوانها وفي الأحلام التي تأخرت حتى شاخت داخلنا الإنسان يظن أنه يملك وقته لكنه في الحقيقة يسير داخله محمولا على إيقاع لا يستطيع إيقافه ولا التفاوض معه منذ اللحظة الأولى يبدأ الوقت في تشكيل
الإنسان دون ضجيج يكبر الجسد ببطء وتكبر الأسئلة أسرع وتكبر المخاوف أسرع من الجميع وفي كل مرحلة نظن أننا فهمنا الحياة ثم نكتشف أننا كنا نفهم جزءا صغيرا فقط الوقت لا يمنح الدروس دفعة واحدة بل يوزعها على خسارات صغيرة وانتصارات خادعة وتجارب نعتقد أنها عابرة ثم نكتشف أنها غيرت مسارنا بالكامل
الإنسان يقضي عمره وهو يؤجل أشياء كثيرة يؤجل الكلام الصادق
ويؤجل المواجهة ويؤجل الحلم ويؤجل الراحة معتقدا أن الوقت سيتسع لاحقا وأن الفرصة ستظل واقفة في انتظاره لكنه يفاجأ بأن الزمن لا يقف لأحد وأن ما لم يعش في حينه يتحول إلى ذكرى ناقصة أو حسرة صامتة في مرحلة ما يدرك الإنسان أن الوقت لا يمر فقط بل يأخذ معه أشياء لا تعود يأخذ أشخاصا كنا نظنهم ثابتين ويأخذ أماكن كنا نعتقد أنها لا تتغير ويأخذ نسخا قديمة منا
كنا نحبها أحيانا ونكرهها أحيانا أخرى ومع ذلك يترك لنا شيئا واحدا لا ينتزعه وهو الفهم الفهم هو الهبة المتأخرة التي يمنحها الوقت بعد أن يرهقنا وبعد أن نتعب من الركض وبعد أن نسقط بما يكفي لنتعلم كيف نقف دون ضجيج نفهم أن الحياة ليست سباق سرعة بل اختبار صبر وأن النجاح ليس لحظة صعود بل قدرة على الاستمرار وأن الخسارة ليست نهاية بل إعادة ترتيب داخلية لا يراها
أحد الوقت يكشف أيضا حقيقة العلاقات يمر على الوجوه فيسقط الأقنعة دون جهد ويبقي القليل ممن يستطيعون البقاء لا لأنهم مثاليون بل لأنهم صادقون ومع مرور السنين يقل العدد لكن تزداد القيمة ويصبح العمق أهم من الكثرة ويصبح الهدوء أهم من الضجيج وفي لحظة نضج صامتة يفهم الإنسان أن أخطر ما يفعله هو أن يعيش حياة ليست له فقط لإرضاء الآخرين أو لمجاراة
التوقعات لأن الوقت لا يعيد الأعمار ولا يمنح فرصا متطابقة وأن ما لم يعش بصدق يتحول إلى عبء ثقيل في آخر الطريق
الوقت لا يظلم أحدا لكنه لا يجامل أحدا أيضا يعامل الجميع بالقانون نفسه من انتبه مبكرا خف حمله ومن تأخر دفع الثمن فهما متأخرا ومع ذلك يظل في كل يوم جديد فرصة صغيرة للإنقاذ وفرصة للتصحيح وفرصة للاختيار المختلف وفي نهاية الرحلة لا
يتذكر الإنسان كم عاش بل كيف عاش لا يتذكر عدد الأيام بل عدد اللحظات التي كان فيها حقيقيا مع نفسه حاضرا في حياته غير مؤجل لروحه ولا هارب من قلبه وهنا فقط يصبح الوقت شاهدا لا عدوا ويصبح العمر قصة تستحق أن تحكى لا رقما ينتهي عنده العد ويصل الإنسان إلى سلام هادئ مع الزمن حين يفهم أن العيش بوعي هو الانتصار الوحيد الممكن وأن من تصالح مع وقته لم يعد يخشاه ولم يعد يطارده بل سار معه بثب
ات حتى آخر الطريق

















