حين نتعلم الرحيل دون ألم
ليست القوة في البقاء رغم الوجع بل في القدرة على المغادرة دون كراهية ودون أن نحمل معنا رماد الأشياء التي احترقت فينا
حين نتعلم الرحيل دون ألم نكون قد مررنا بكل أشكال الخذلان الممكنة حتى صار القلب يعرف كيف يغلق الأبواب بهدوء دون أن يلتفت
نتعلم أن نودع الناس بصمت دون أن نبرر دون أن نعاتب دون أن نفسر وجعنا
فقد تعبنا من أن نشرح ما لا يفهم ومن أن نحمل العلاقات الميتة على أكتافنا بحجة الوفاء
حينها ندرك أن بعض النهايات ليست خيانة بل نجاة
الرحيل دون ألم لا يعني القسوة بل يعني أن نحب أنفسنا كما أحببنا الآخرين
أن نمنحها الحق في الابتعاد حين يبهت الشعور وحين يصبح البقاء استنزافا
أن نفهم أن الصبر لا يصنع المعجزات دائما وأن الاستمرار لا يعني السعادة
أحيانا يكون الانسحاب أصدق من كل الوعود وأرحم من كل العتاب
كنا في السابق نرتجف من فكرة الفراق كأنها موت لا يحتمل
لكننا اكتشفنا لاحقا أن هناك ما هو أشد وجعا من الفراق البقاء في مكان لا يشبهنا
أن نستيقظ كل يوم على وجود بلا روح وعلى وجوه لا تضيء كما كانت
أن نحاول إنعاش علاقة لفظت أنفاسها بينما نعلم في أعماقنا أنها انتهت منذ زمن
حين نتعلم الرحيل دون ألم نتغير من الداخل
نصير أكثر هدوءا لا نحمل الأحقاد لا ننتظر الاعتذارات ولا نبحث عن التبريرات
نكتفي بأن نعرف الحقيقة دون أن نعيد صياغتها لتبدو أجمل
نترك الناس كما اختاروا أن يكونوا ونمضي كما يملي علينا القلب لا كما يملي علينا الخوف
نصبح كمن نضج من كثرة الانكسارات فلم يعد يحتاج إعلانا ليقول إنه تألم
تعلم أن ينسحب من الموائد التي لم يدع إليها ومن الحكايات التي لم تكتب له نهايتها
يمشي بخطى ثابتة كمن يعرف أن ما كسر لا يعود كما كان وأن بعض الفقدان ضرورة للنمو
يمضي وفي عينيه حنين لكنه حنين لا يوجعه بعد الآن
حين نتعلم الرحيل دون ألم نفهم أن بعض الناس لا يرحلون فعلا بل يتراجعون خطوة بخطوة حتى يغيبوا
وأننا نحن الذين نصر على التمسك بظلهم نعيد تلوين الغياب بأمل كاذب
لكن في لحظة صافية من الصمت نرى الحقيقة كما هي لا أحد يستحق أن نهين قلوبنا لأجله
فنختار الهدوء ونترك المقعد خاليا ونمضي وكأن شيئا لم يكن
وهناك في منتصف الطريق يبدأ القلب يتنفس من جديد
يتعلم أن الراحة ليست في البقاء مع من نحب بل في البقاء مع من يشبهنا
يتعلم أن الحب لا يقاس بالمدة بل بالصدق وأن النهاية الكريمة أحيانا أجمل من البدايات الباهتة
فنرحل بخفة دون أن نحمل معنا الحزن ودون أن نغلق الأبواب بعنف
ونلتفت آخر مرة لا لنودع بل لنشكر
نشكر من أوجعنا لأنه جعلنا نفهم أنفسنا أكثر ومن غادر لأنه حررنا من الانتظار
نشكر كل وجع صقلنا وكل سقوط أعاد بناءنا من جديد
ثم نمضي لا نحمل سوى سلام داخلي نادر وابتسامة هادئة تشبه الغفران
حين نتعلم الرحيل دون ألم ندرك أن الحياة لا تنتظر أحدا
وأن أجمل انتصار فيها أن نغادر ونحن ما زلنا نحب لكن نحب بصمت دون حاجة للوجود دون انتظار للعودة ودون خوف من الفقد
فذلك هو النضج الحقيقي
أن تغادر المكان وتترك خلفك جزءا منك لكن تمضي بقلب خفيف يعرف أن السلام أهم من البقاء

















