حين يتنفس الصبح من صدر الليل

تلك اللحظة التي يذوب فيها الظلام على أطراف الضوء كأن السماء تعتذر للعالم عن قسوته البارحة
في ساعة لا يسمعها إلا القلوب الساهرة
حين يكون الليل قد تعب من حمل أوجاع الناس فوق كتفيه
وحين تنحني النجوم لتودع السماء في صمت شفيف
تحدث معجزة صغيرة لا ترى
فيتنفس الصبح من صدر الليل
كما يتنفس الأمل من قلب الحزن وكأن الكون نفسه يجرب الخلاص
ما أجمل تلك اللحظة يا صديقي
حين يخفت العتم وتبدأ خيوط النور الأولى تشق صدر السماء ببطء حنون
كأنها يد بيضاء تمسح على قلب متعب
لا ضجيج لا كلمات لا صخب
فقط نفس جديد للكون يشبه أول شهقة لطفل رأى الحياة للتو
في تلك اللحظة تنصت الطيور للسماء
وتستيقظ الأشجار برهفة لا يدركها إلا من أحب الصبح يوما كما يحب إنسان وجه أمه
الليل يا صديقي ليس عدوا كما يظن البعض
هو معلم صامت يدرسنا كيف نحمل وجعنا في هدوء
لكن الصبح هو الصفحة التي تكتب بعدها الدروس
حين يتنفس الصبح يغسل وجه الأرض من دموع الليل
وينثر عليها رائحة جديدة تشبه الغفران
حتى الهواء يصير أكثر طراوة
كأنه يقول انتهى الظلام والآن آن أوان البداية
في لحظة ميلاد الضوء
تتغير ملامح الأشياء دون أن تشعر
حتى الجدران المبللة بندى الليل تبدو أكثر صدقا
والطرقات التي كانت موحشة قبل دقائق
تصير كأنها شرايين مدينة تستعد للحياة
تتنفس البيوت وتفتح النوافذ عيونها
ويخرج الناس بملامح جديدة لم تصنعها الأيام بل صنعها الفجر
فالفجر يا صديقي لا يغير شكل العالم فقط
بل يبدل نبض القلوب أيضا
وحين يتنفس الصبح تتكسر قيود كثيرة
قيود الخوف وقيود الانتظار وقيود الأحلام المؤجلة
يشعر الإنسان وكأن ضوء الفجر يعيد ترتيب داخله
فيغفر لما وجعه ويتسامح مع نفسه
ويقرر أن يعيش يوما جديدا دون حمل الأمس على كتفيه
كأن الله يقول له بصوت الضوء ابدأ من هنا فكل ما مضى انتهى
تأمل المشهد قليلا يا صديقي
تلك الدقيقة التي يتناوب فيها الليل والصبح الحراسة على قلب العالم
كأن أحدهما يسلم الآخر مفاتيح الوجود
الليل يقول حافظ عليهم فقد بكوا كثيرا في حضني
والصبح يجيبه بابتسامة صافية اطمئن سأمنحهم ما فقدوه منك النور
يا لها من لحظة تفيض بالشعر
حين يتعانق الظلام والضياء دون خصومة
فكأنهما وجهان لروح واحدة تبحث عن توازنها الأبدي
وحين يكتمل الضوء يبدأ الكون في الإنشاد
تغني العصافير أول ترنيمة للحياة
وتضحك الأنهار وهي تجري كأنها طفلة تهرب من أحلام الليل الثقيلة
كل شيء يعود كما كان
لكن ليس كما كان فعلا
فكل فجر يضيف إلى الوجود معنى جديدا
ويمنح القلوب فرصة أخرى لتصالح نفسها مع الزمن
حين يتنفس الصبح من صدر الليل
يشعر الإنسان أنه نجا من شيء لا يعرفه
ويتنفس هو الآخر بعمق لا إرادي
كأن الضوء لا يمر فقط عبر النوافذ بل يعبر قلبه أيضا
وهنا في تلك اللحظة الخفية التي لا يلتفت إليها العالم
تبدأ معجزة أخرى
أن يحيا المرء من جديد دون أن يقال له كيف أو لماذا
يكفي أن الفجر أتى
فهذا وحده سبب كاف لأن نؤمن أن الغد أجمل
وأن الصبح مهما تأخر لا بد أن يولد من صدر الليل