18:10 | 23 يوليو 2019

القاضي لا يقرأ النوايا.. كيف تصنع الدفاع الذي يقتنع به القانون لا الضمير؟

10:57am 23/10/25
صورة أرشيفية
عمر ماهر

في ساحات العدالة، لا مكان للعواطف، ولا تُقبل النوايا كشهادة. القاضي لا يجلس على المنصة ليقرأ ما في القلب، بل ليقرأ ما في الورق. ومع ذلك، يقع كثير من المحامين والمتقاضين في الفخ ذاته: “أنا عندي حق، بس القاضي ما فهمنيش”. الحقيقة أن القاضي فهم، لكنك لم تقدّم له “الحق” في الصورة التي يفهمها القانون. فالمحكمة لا تبحث في نُبل الغاية، بل في سلامة الإجراء. لا يهمها إن كنت مظلومًا بصدق، بل إن كنت أثبت الظلم بطريقة صحيحة.
القانون، ببساطة، لا يتعامل مع النيات، بل مع الأدلة والمواعيد والنصوص. كم من مظلوم خسر دعواه لأن محاميه تأخر في تقديم مذكرة، أو أغفل مستندًا جوهريًا، أو نسي أن يُعلن خصمه إعلانًا صحيحًا. وكم من مخطئ خرج منتصرًا لأنه عرف كيف يستخدم القانون في مصلحته. إنها ليست لعبة حظ، بل لعبة وعي بالوقت والإجراء والدليل. فالقاضي مقيد، لا يحكم بما يشتهي، بل بما يُقدَّم له في المرافعة. حتى لو شعر في قرارة نفسه أن أحد الأطراف على حق، فهو لا يستطيع أن ينصره إلا بما بين يديه من أوراق. وهنا يظهر جوهر المحامي الناجح: أن يعرف أن العدل في القانون لا يتحقق بالصدق فقط، بل بالدقة أيضًا.
كثير من الشباب المحامين يظنون أن الدفاع القوي هو الذي يمتلئ بالعاطفة والعبارات الرنانة، فيكتبون مذكرات أقرب إلى خطب أدبية. لكن القاضي لا يُقيّم الأسلوب، بل يُقيّم المنطق القانوني. الدفاع الحقيقي هو الذي يُخاطب النصوص لا المشاعر، ويُثبت الوقائع لا النوايا. فكل جملة لا يمكن ترجمتها إلى “دليل” هي مجرد كلام جميل لا يغيّر في الحكم شيئًا. القاضي يبحث عن رابط منطقي بين ما تقوله وبين ما تستطيع إثباته.
القانون المصري والعربي عمومًا قائم على قاعدة ذهبية: “البينة على من ادّعى، واليمين على من أنكر.” ولكن الناس غالبًا تنقلب على هذه القاعدة في حياتهم اليومية، فيظنون أن مجرد رواية الحدث تكفي. بينما أمام المحكمة، كل كلمة تحتاج ورقة تسندها، وكل واقعة تحتاج توقيعًا أو مستندًا أو شهادة. وهنا يأتي السؤال الصعب: كيف تُقنع القاضي دون أن تعتمد على النية؟
الجواب بسيط وعميق في الوقت نفسه: “حوّل نيتك إلى ورق.” إذا كنت صاحب حق، أثبته. لا تؤجل، لا تؤمن بأن “الحق ظاهر” لأن الحق لا يظهر إلا من خلال الأوراق. أن تؤدي واجبك القانوني في الميعاد، أن تحفظ إيصالاتك، أن توثق اتفاقاتك، أن تعلن خصمك بالطرق الرسمية، كل هذا هو شكل النية الصادقة في لغة القانون.
القاضي لا يملك ترف الوقت ليبحث في خلفياتك الأخلاقية أو ظروفك الإنسانية، هو يقرأ الأوراق بعين القانون، لا بعين العاطفة. ومن هنا، الفرق بين “الحق الواقعي” و”الحق القانوني”؛ الأول في الضمير، والثاني في الحكم. ما يهم القاضي هو الثاني فقط، لأن عليه أن يحكم وفق النص، لا الشعور. فكم من خصم صادق خسر لأنه لم يقدّم مستنده في الوقت، وكم من مدعى عليه نجا لأنه تمسك بإجراء بسيط ظنه الآخر تافهًا.
وهنا تأتي نصيحة كل محامٍ خبير: لا تراهن على نية القاضي، بل على قناعاته القانونية. اصنع دفاعك كأنك تشرح لنظام لا يعرفك، نظام يعتمد فقط على الوثائق. ركّز على ترتيب الوقائع، لا على وصفها. ضع نفسك مكان القاضي، واسأله قبل أن يسألك: “هل ما قلته يمكن إثباته؟”؛ “هل الدليل موجود في الملف؟”؛ “هل الإجراء صحيح؟”. إن أجبت عن هذه الأسئلة بصدق، فأنت في الطريق إلى حكم عادل.
القانون لا يظلم من يعرفه. الظلم الحقيقي أن تجهله ثم تلومه. لذلك فالمحامي الذكي ليس من يحفظ المواد، بل من يقرأ النص بروح الواقع. لأن كل نص قانوني هو في الأصل تجربة حياة كُتبت بلغة رسمية. المادة التي تنص على سقوط الحق بمضي المدة، مثلًا، لا تهدف إلى ظلم أحد، بل إلى ضبط النظام، لأن العدالة المؤجلة تفسد العدالة ذاتها. والذين يصرخون “القانون ظالم” في كثير من الأحيان لم ينتبهوا إلى أنهم خالفوه قبل أن يشتكوا منه.
العدالة، كما تُمارس داخل المحكمة، هي علم أكثر منها شعور. كل ورقة تقدمها تُغيّر موازين القوة. وأبسط خطأ في الإعلان أو التوقيع قد يُسقط دعوى كاملة. لذلك لا يكفي أن تكون صادقًا، بل يجب أن تكون دقيقًا. لأن الصدق من دون دليل يُصبح رأيًا، والدليل من دون إجراء يُصبح باطلًا. والاثنان معًا هما جناحا الدفاع الناجح.
إن أخطر ما يفعله بعض المحامين الشباب أنهم يكتبون المرافعات كأنهم يكتبون قصصًا، لا كأنهم يقدمون قضايا. بينما المرافعة المحكمة هي تلك التي تبني قناعة القاضي خطوة بخطوة، دون انفعال أو إغراق في التفاصيل. القاضي لا يحتاج أن يشعر بمعاناتك، بل أن يرى وجه الحق في أدلتك.
في النهاية، تذكّر دائمًا أن القاضي لا يقرأ النوايا، لكنه يحترم المحامي الذي يُحسن صياغة الحقيقة بلغة القانون. وكل قضية هي امتحان مزدوج: امتحان للمحامي أمام القانون، وامتحان للموكل أمام الصبر. من يربح الدعوى هو من يُدرك أن العدالة ليست إحساسًا بالإنصاف، بل التزامًا بالإجراء.
وإذا أردنا أن نصلح حال العدالة في مصر والعالم العربي، فالحل ليس في تغيير القوانين فقط، بل في تغيير ثقافة التعامل معها. فبدل أن نقول “القانون ما أنصفناش”، فلنقول “إحنا ما استخدمناهوش صح”. لأن العدالة تبدأ حين تفهم أن القاضي لا يقرأ النوايا.. لكنه يُنصف من يُجيد الحديث بلغته.
 

تابعنا على فيسبوك

. .
paykasa bozum