صفوت عمران يكتب: إلى السيد كامل وزيري .. «الصعايدة ليسوا فرز تاني» .. محطة رمسيس ملك للجميع.. راجع نفسك يرحمنا الله!
رغم أن مصر بشكلها الحالي ظهرت عام 3200 ق.م، بفضل الملك نارمر مينا موحد القطرين، الذي تعود جذوره إلى محافظة سوهاج قلب الصعيد، الصعيد الذي ظل طوال التاريخ حائط الصد والحصن الأخير للدفاع عن الدولة المصرية، والمحافظ عليها من التفتت والضياع، والبداية الدائمة لعودة وحدتها وتماسكها منذ طرد الهكسوس وصولاً لمواجهة الفرنسيين والانجليز، ورغم أن نهر النيل شريان الوطن يجري في قلب أرض الصعيد ليصل إلى كل مكان في مصر فيمنحه الحياة، إلا أنه دائما يعاني الاهمال، وأهله عاشوا لعصور طويلة زواجا كاثوليكيا ومازالوا مع الفقر والجهل.
ولأن حكوماتنا طول التاريخ الحديث لا تبحث عن حلول حقيقية، كما أن الأنظمة المتتالية واجهت ومازالت أي مشكلة «بالطناش وتكبير الدماغ» احيانا، وبالمسكنات الوهمية و«القوانين الترقيعية» في اغلب الوقت، ما يؤدي لنتائج كارثية تكتشف بعد فوات الآوان، وفي وقت لا ينفع فيه الندم، إلا أن الصعيد ينال القسط الأكبر من الإهمال والفساد وبشكل متكرر، كأن «الصعايدة مواطنون فرز تاني»، رغم مخالفة ذلك للدستور الذي ينص علي أن جميع المواطنين أمام القانون سواء، ولهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات، فلم يشفع لـ«الصعيد» أن يكون أحد ابنائه من مؤسسي الجمهورية الأولي وقائد ثورة يوليو الرئيس الراحل جمال عبدالناصر إبن قرية بني مر بمحافظة اسيوط، لدرجة أنه في عهده فوجئ برئيس وزرائه كمال الدين حسين «الفترة من 1960- 1962» يصدر قراراً بترحيل الصعايدة من القاهرة للتخلص مما أسماه وقتها بـ«العشوائية والزحام»، وقتها طلب منه عبدالناصر بأن يتم ترحيله أيضاً باعتباره صعيدياً ففهم رئيس الوزراء الأمر وتم إغلاق الملف، ثم يأتي عبدالرحيم شحاتة محافظ القاهرة في تسعينات القرن الماضي ويجدد الأمر في عهد مبارك مطالباً بترحيل الصعايدة لتتخلص القاهرة الكبري من زحامهم وتراجع عن القرار لاعتبارات أمنية لكنه ترك مرارة في قلوب كل أهلنا في الصعيد أحفاد وأبناء رفاعة الطهطاوي وطه حسين وعباس محمود العقاد ومصطفى المراغي ومحمد السيد طنطاوي واحمد الطيب ومكرم عبيد ومجدي يعقوب والبابا شنودة وغيرهما كثيرين، ثم فوجئ الصعايدة في 2015 بالدكتورة ليلى اسكندر وزيرة التطوير الحضري وتنمية العشوائيات في حكومة شريف اسماعيل تتهمهم بأنهم سبب انتشار العشوائيات في القاهرة الكبرى وتطالب بمنع دخولهم العاصمة وتحت ضغط الرفض الشعبي تراجعت واعلنت أن جذورها تعود لمحافظة المنيا، فيما يؤكد الواقع أن العشوائية وسوء التنظيم مسئولية الحكومات المتعاقبة والتي لم يأت من بين رؤسائها واحداً من الجنوب - فعلا وليس اسما - منذ عقود طويلة، فالصعايدة الذين بنوا مصر بينهم ملايين الأكفاء والمتخصصين يستحقون أهم المناصب لو كانت الكفاءة هي المعيار الوحيد، وتصدير صورة ذهنيه مغلوطة عنه كذب وافتراء وتضليل وتزوير للواقع والتاريخ معاً، وكل ذلك يخصم من رصيد الوطن.
الأكثر مرارة من ذلك، أن الموروث الشعبي المصري يرى في بعض طبقاته أنه لا يحق لـ«الصعيدي» أن يكون رئيساً للجمهورية، مُرجعين ذلك إلى نكسة 1967 وإلصاقها بـ«عبدالناصر» وحده كدليل وهمي علي سوء إدارة «الصعايدة»، ونسي هؤلاء أو تناسوا عن عمد أن مجلس قيادة الثورة كان يضم مصريين من مختلف أنحاء الجمهورية، ومن حققوا انتصار أكتوبر يمثلون أبناء مصر جميعاً وفي مقدمتهم الصعايدة، وأن مشروع ناصر القائم علي العدالة الإجتماعية والكرامة الإنسانية واستقلال القرار الوطني مازال عائشاً بعد 50 عاماً من رحيله، ورغم اختلافنا معه في بعض الممارسات، إلا أن «مشروعنا الثوري والتغييري» الآن يحمل المبادئ نفسها.
الحقيقة أننا ضد تقسيم الوطن إلى ثنائيات، صعايدة وفلاحين، مسلمين ومسيحيين، فتلك التوصيفات صنيعة الإحتلال الإنجليزي الذي كان يعمل وفقا لمبدأ فرق تسد، وضد الحديث عن إهدار حقوق الأقليات سواء البدو أو النوبة أو غيرهم، فجميعنا مصريون وفقا لدستور يعلي من قيم المساواة، كما أننا ندرك أن اللحظة الراهنة التي يمر بها الوطن لا تحتمل الإنقسام والتشرذم، إلا أنه من الخطر أن ندفن رؤوسنا في الرمال، وأن نتجاهل مشاكلنا المتراكمة عبر عقود طويلة، فالمواجهة والعلاج العلمي والتخطيط السليم، الحل الوحيد، لمواجهة ما نعانيه من موروث ثقافي واجتماعي واداري عقيم.
ربما تلك الصرخة لم تكن تخرج من بين جدران ضلوعنا لو لا ما نشاهده بين فترة وأخرى من تهكم مرفوض وتجاوز غير مقبول ونظرة سيئة لأبناء الصعيد وإهدار مقصود لدورهم ومكانتهم، بل وارجاع أي خطأ فردي لجميع أبناء الصعيد وكأنه سمة لكل الصعايدة، وهو تجاوز يستحق مرتكبيه أقصى عقاب .. وجاءت التصريحات الأخيرة لوزير النقل كامل الوزيري لتؤكد هذه النظر الفوقية والمتغطرسة نحو أبناء الصعيد والتي شملت إعلانه منع قطارات الصعايدة من دخول محطة رمسيس «جد الصعايدة» في مخالفة صارخة للدستور وتجاوز مرفوض .. خطأ يستوجب التراجع عنه فورا لانه يشعل فتنه بين أبناء الوطن الواحد ويحقق التقسيم العرقي والقبلي الذي خلقه الاستعمار ويريد تنفيذه الحلف الصهيوامريكي في المنطقة وكأن «السيد كامل» جاء دون قصد ليساهم في تنفذ مخطط مشبوه تحت دعاوي التطوير .. لذا نطالبه بالتراجع حتى لا يفسد وحدة أبناء الوطن ويشعل أرجائه، فقد نلت ثقة الرئيس السيسي وكنت عند حسن الظن في مواقف كثيرة فلن يضيرك التراجع عن قرار خطأ ويضر بالسلام الإجتماعي .. حيث أن ذلك وغيره يجعلنا نؤكد أن «الصعايدة» ظلوا «فرز تاني» ورقماً مجهولاً في دفتر احوال الوطن، والحكومات المتعاقبة مازالت غائبة أو مغيبة عن الاهتمام بالصعيد، رغم أن المهندس مصطفى مدبولي رئيس الوزراء الحالي تعود جذوره لمحافظة سوهاج، فلا اعرف كيف يقبل مثل تلك التصريحات من أحد وزرائه.
إن النظرة إلى الصعيد لا تشمل فقط إعادة المساواة لمواطنيه مع اخوتهم من أبناء الشعب والاعتراف بدورهم في بناء الوطن، وليس فقط بمنحهم مواقع قيادية يستحقونها وغابوا عنها نتيجة موروث اجتماعي خرب، ولكن تمكين جميع أبناء الوطن يكمن في العدالة ومنحهم فرص متساوية مع الجميع، علاوة علي اختيار مسئولين قادرين علي النهوض بالجنوب المنسي والممتد من الجيزة وحتي اسوان، وعدم نقل أي مسئول ينجح في الصعيد وكأن محافظاته للتأديب وفقط، نريد محافظين ومسئولين الصعيد يساهموا في تحقيق الانضباط والتنمية وألا يكون تقلد المناصب في محافظات الصعيد مكافأة نهاية الخدمة لأشخاص «نص كم»؟؟.
«الصعايدة، جزء لا ينفصل عن الوطن، وقلبه النابض الحالم بمستقبل أفضل، اهمالهم جريمة ضد الإنسانية ولا بد أن ندرك جميعاً أن الحرب ضد الإهمال والفساد والفقر لا تقل خطورة عن مواجهة الإرهاب، وأن الشعب مل ضمير الحكومة الغائب، ولم يعد يصدق عبارات كله تمام، ولن يقبل بعد ثورتين عظيمتين إلا بمحاسبة المقصرين، فمن حقنا جميعاً أن نعيش حياة كريمة تحترم إنسانيتنا الضائعة، وألا نكون أرخص ما في الوطن».