الإيجارات القديمة.. لا تُداوِ الظلم بظُلمٍ أفدح بقلم: نادية هنرى

في لحظة شديدة الحساسية من عمر هذا الوطن، وبينما تتراكم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، يلوح في الأفق خطر تشريعي قد لا يقل خطورة عن تلك الأزمات مجتمعة. إنه مشروع قانون الإيجارات القديمة المطروح أمام البرلمان، والذي يحمل في طيّاته مادة مثيرة للقلق، تُجيز إخلاء المستأجرين من مساكنهم بعد ما تُسمى بـ”فترة انتقالية” لا تتجاوز سبع سنوات.
ظاهريًا، يبدو القانون كأنه يسعى لإصلاح مظالم تاريخية لحقت بالمالكين، لكن الحقيقة أن تطبيقه بهذه الصيغة قد يخلق ظلماً جديداً، أشد فداحة من ذاك الذي يُفترض أن يُعالج.
بين العدل والتاريخ
صحيح أن هناك خللًا واضحًا في العلاقة الإيجارية القديمة، وأن تجميد الأجرة لعقود طويلة أضرّ بالملاك، لكن معالجة هذا الظلم لا ينبغي أن تتم على حساب أمان واستقرار ملايين الأسر.
فلنكن واضحين: المالك الذي بنى عقاره في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي لم يدفع ملايين، بل بنى على أراضٍ كانت تباع بأقل من عشرة جنيهات للمتر، وبمواد مدعومة، وبإيجارات كانت تُعادل وقتها نصف راتب موظف حكومي. بل إن كثيرًا من المستأجرين دفعوا “خلوًا” ومقدمات، كان بعضها يُعادل نصف قيمة الوحدة.
وعلى مدار العقود، ظل الطرفان خاضعين لقانون سائد وعرف اجتماعي مستقر. اليوم، لا يمكن القفز على هذا التاريخ وتطبيق منطق السوق الحالي على وقائع تعود إلى نصف قرن مضى.
عدالة انتقائية؟
في 2002 و2011، أصدرت المحكمة الدستورية العليا أحكامًا تقر بحق جيل واحد في امتداد عقد الإيجار. ثم جاء حكم آخر عام 2024 بعدم دستورية تثبيت الأجرة.
لكن الملفت أن مشروع القانون الحالي يُراعي الحكم الثاني ويتجاهل الأول، متجاوزًا بذلك أحد أهم مبادئ دولة القانون: اتساق التشريعات مع الأحكام القضائية.
فهل يُعقل أن نُجيز الإخلاء التام، بينما هناك حكم نافذ يقرّ بحق الامتداد لجيل واحد؟
وهل نتصور فعلًا أن الدولة – وهي المثقلة بديونها وأعبائها – قادرة على توفير سكن بديل لملايين البشر في سبع سنوات؟
من يسكن هذه الشقق؟
ليست القضية فقط في أحياء شعبية أو شقق اقتصادية.
كثير من المستأجرين هم من أبناء الطبقة الوسطى المهددة بالاندثار: أساتذة جامعات، مهندسون، قضاة، صحفيون، عاملون بالدولة، تقاعدوا أو أوشكوا على التقاعد، ولا يملكون ثمن شراء شقة في موقع شقتهم الأصلية، ولا يمكنهم التكيف مع حياة جديدة على أطراف المدينة.
ما نحتاجه الآن ليس قانونًا يُشرّع الطرد، بل سياسة إسكان تُعيد التوازن دون قسوة.
لنبدأ بالشقق المغلقة
إذا كانت النية الحقيقية هي تصحيح الأوضاع، فلنبدأ بالشقق غير المأهولة، وهي بالآلاف. شقق ورثها الأبناء ولم يسكنوها، أو يحتفظ بها المستأجرون المغتربون مغلقة منذ سنوات.
هذه الشريحة لا تمثل خطرًا اجتماعيًا، ويمكن استعادتها بسلاسة لصالح المالك، دون المساس بحقوق الساكنين.
مثل هذا التدرج في التطبيق لا يحمي فقط المستأجرين، بل يضمن استقرارًا مجتمعيًا، ويمنح الوقت لتدارك آثار التعديل، دون صدمات أو كوارث.
حل لا يصطدم بأحد
الحل العادل لا يكمن في الإخلاء، بل في:
• احترام حكم المحكمة الدستورية بامتداد العقد لجيل واحد.
• زيادة الإيجار بشكل تدريجي عادل، يراعي الفئة والموقع.
• فرض حد أقصى على الإيجارات المتميزة.
• تشجيع التفاوض المباشر بين الطرفين، مع آليات تحكيم عادلة.
إننا لا نكتب مجرد نص قانوني، بل نرسم ملامح العلاقة بين المواطن والدولة، ونقرر إن كانت الدولة ملاذًا آمنًا للمواطن البسيط، أم تهديدًا جديدًا له في شيخوخته.
في الختام
لا يمكن لدولة تحترم نفسها أن تعالج خطأ بخطيئة، أو أن تقتص للمالك بأن تدفع المستأجر إلى العراء.
المجتمع الذي يُلقي بأبنائه من بيوتهم، بحجة تصحيح التشوهات، يخسر أكثر مما يكسب.
فلنُداوِ الخلل بعقل، لا بمقصلة، ولنُداوِ الظلم بعدالة حقيقية، لا بظلمٍ أشد