عبدالحى عطوان يكتب: ساعة الرحيل
عندما أحس بقرب النهاية، قادته قدماه إلى الغيط الذي أخذ من عمره سنوات وسنوات، ما بين الرى والزرع والحصاد منذ اشتد عوده وعرف طريقه إليه، جلس على حافة الترعة واضعًا إحدى يديه فوق أحد خديه يفكر في تلك النهاية، فقد دنت ساعة الرحيل حسب آخر التقارير الطبية، حاول أن يتذكر ، فقد امتلأت الذاكرة بالصور المتلاحقة منذ الطفولة والماضي البعيد، ذلك اليوم حينما وقف مودعًا أخيه محمود عندما همَّ بالسفر والرحيل لإحدى الدول العربية، وآخر كلماته "لا تترك أرضك بورًا أو عطشى، اجعلها كل رأس مالك"، ومن لحظتها والفأس لا تفارق يديه، ورائحة الطين صارت رائحته المفضلة.
جال بعينيه يمينًا ويسارًا، وعاد بذاكرته للأيام الأولى؛ صورة الخال مندور وهو يدور مع تلك الساقية ذات الأذرع الخشبية الموجودة أسفل شجرة ضخمة عمرها من عمر القرية، فقد غطت فروعها المكان حتى أصبحت ملجأ للجميع من قيظ النهار، وشدة الحرارة، ويتهافت عليها الكل لالتقاط حبات التوت الملونة بالأحمر والمتساقطة منها، اتكأ للخلف قليلًا لتخرج منه تنهيدة تشق خلجات صدره، فلا تزال تلك الصور والذكريات محفورة بذاكرته منذ أعوام طويلة ولم تغادر وجدانه.
جال بخاطره فرح شقيقته خديجة التي تكبره بعامين، وبدأ يحادث نفسه عن كم كانت حنونة تشفق عليه حينما يعود حاملًا فأسه فوق كتفه، وملابسه متسخة بالطين، ولا يزال يرن في أذنيه صوتها لحظة مجيء تلك الخياطة وبناتها بالطابق الثاني، لتأخذ المقاسات وتحيك الفساتين، استعدادًا لليلة زفافها، وها هو المنجد يضرب بعصاه الطويلة القطن الموضوع أمامه على تلك الحصيرة الملونة بالخطوط الزرقاء، وصوت المسجل يشدو بالأغانى ليشق أسماع أهالي القرية؛ ملامح الناس التي تأتي تهنئ وتبارك، ومنهم من يحمل في يديه برادًا عتيقًا من الشاي، وتلك الزغاريد تجلجل دارهم، حتى لحظات الليلة الموعودة ظلت محفورة بأعماقه حينما وضعوا الميكروفون ذا الصحن الكبير على سور الدور الرابع بمنزل العم مسعود، والمنشد وفرقته، وتجمع كل سكان القرية أمام دوار العائلة، الضحكات والأغاني تخترق الآذان والأيادي ممسكة بأكواب الشاي، ذلك المشروب الوحيد الموجود في كل أفراح البلدة، وها هو ابن عمه موسي يتراقص بالعصا حاملًا جرة فوق رأسه في مهارة حظيت بتصفيق الحاضرين!!
أخذته تلك الأفكار إلى حزن دفين؛ أين ذهبت تلك الأيام والليالي؟ أين ذهبت اللمة وقيم احترام الكبير؟، أين ذهبت أخلاقنا؟، وأين الجد والخال والعم الذين كنا نقف أمامهم بالساعات؟، وتذكر الشاب ابن العم سيد الذي أنهى تعليمه، حينما شاهد قدوم خاله وضع سيجارته في جيبه وهي مشتعلة حتى ظهرت بوادر الدخان، وشم الجميع رائحة حريق جلبابه، والكل عرف قصة سيجارته حتى أصبحت أشهر رواية بين الشباب.
انتبه من ذكرياته وصور الماضي قليلًا على صوت أحد المارة، وهو يلقي التحية، وتذكر سبب مجيئه إلى هذا المكان، فقد دنت ساعات الرحيل، وأراد الوداع من رائحة الطين التي لازمته طيلة عمره، تتزاحم برأسه الأصوات الغاضبة المرتبكة، حاملة التشاؤم الثقيل الذي لا يُحتمل، وغضب مسعور، وخوف من النهاية، فالحياة في الآونة الأخيرة له أشبه بالعاصفة التي لا تهدأ، وتحمل كثير من الظلمات، التي تثقل على الصدور وتجعل اليأس يتفجر ليهوي بالروح إلى الجحيم، فقد هزمه المرض، واختفت الضحكة من صفحات وجهه وأصبحت الليالي رهيبة يتضافر فيها الخوف والفزع والقلق والانتظار والصمت والحنين والذكرى والحماقة والأمنيات والاشمئزاز والملل.
انتفض من مجلسه متسائلًا؛ لماذا صار الجو غائمًا ومعتمًا وبارداً؟ لماذا تغلغل اليأس منا حتى أصبح شللًا للنفس وسقمًا مميتًا؟، مرددًا: "قد يكون اليوم نهايتي أو غدًا، وإن طال العمر أيام حسب تقارير الأطباء"، امسك بقطعة من الحطب ليخط على الأرض خطوطا وكتب "لا تطيلوا التحديق فى الحزن، لا تدخلوا منطقة الظلام، فالأشباح السوداء التي تعشعش فينا تقتل الروح، ولا تتركوا الظلمات تبتلعنا وتجثم على كل شيء، دعوا الإحساس بالحياة ينتصر، جدفوا دائمًا ناحية الضوء، اجعلوا أصواتكم مفعمة بالأمل فالغد سيحمل حتمًا نهارًا آخر وحلمًا جديدًا"والحياة لن تقف وستستمر