18:10 | 23 يوليو 2019

عبدالحى عطوان يكتب: عام كامل على رحيله

4:17pm 03/11/24
عبدالحى عطوان
عبدالحى عطوان

عاشت مع ذكرياته قابعة بين أربعة جدران، دون أن تغادرها يومًا واحدًا، تضربها برودة الصقيع في الشتاء، وقيظ الحر بالصيف، اختفت بين حوائط غرفتها المسافات الفاصلة، وأحاط الظلام بها من كل جانب، فأطبقت الشجون على عينيها، فبدت الألوان كئيبة باهتة، وأصبح الحزن القابع داخلهما سلطانًا للأشباح.  

لم تفارق الأدوية والمهدئات وتعليمات الطبيب عامًا كاملًا أدراجها، حتى باتت الدهشة والرعشة والصمت المدقع والألم عنوانًا لملامحها، وغاب عنها النوم، وزرعت فراشها ووسادتها بالأشواك، فهي في حلم دائم غير مصدقة لذلك الفراق، كانت تردد كلما اختلت بنفسها سوف يأتي وتنجلي عتمة الليل، لم تشعر بتقاسيم وجهها التي تغيرت، ولا بريقها الذي انطفأ، ولا بذلك السواد الذي غطى كل جبينها، ولا بعينيها اللتين دفنتا بين مخارج دموعها، فبدت وكأنها قطعة من لوحة تشابكت خيوطها وذابت ألوانها فضاعت ملامحها، وكأنها رتوش صورة لأنثى غادرت الحياة. 
ينتابها التيه كلما تذكرته أو نظرت إلى صورته المعلقة في أحد أركان غرفتها الدامسة الظلام، تحادثه وكأنه لا يزال يغازلها ببريق الكلمات، حاولت أن تخرج محبرتها وقلمها  وتسطر سطورًا تخرجها من شجنها أو تلقي بها خارج أسوار سجنها، أو أن تكتب شيئا تغير به ذكرى بروفيلها الملفح بالوشاح الأسود، والمكتوب عليه "مغلق للحداد"، حاولت تجميع الحروف، وتشبيك الكلمات، ولكنها وجدت صعوبة، فكلما كتبت شيئًا عادت لتقرأه، وسرعان ما تمزقه.
أطبقت جفون عينيها، وحاولت لأول مرة أن تنام فماجت برأسها شجون الذكريات، أحلامه وآماله وروحه وكلماته وطموحه وصوت سيارته وسرينته عندما كان يقترب من المنزل وكأنه يعلن قدومه، تتذكر طرقات يديه الخفيفتين، وإدارته للمفتاح، وتنهيدته عندما كان يهم بالجلوس فوق الأريكة، ويضع ما يحمله من أكياس فوق المنضدة الموجودة بأحد أركان الصالة، فقد كان أنيقًا، ويتبدى ذلك على تسريحة شعره، وقامته، وخطواته الثابتة، وملامحه الوسيمة، وملابسه المنسقة، وساعة يده ذات الماركة، تذكرت كل شيء حتى حديثه مع أمه كلما جاءت، وأحلامه القديمة بأن يصبح ضابطًا يعلق النياشين والأوسمة، فقد كان زوجًا هادئًا رقيقًا يطوي بين حنايا القلب روحًا دافئة حنونة، إذا تحدث أنصت إليه الجميع، فانتقاؤه للكلمات كان يصنع حوله بريقًا جذابًا، عام كامل لم يفارقها لحظة، عاشت خلاله مع الذكريات.
وبينما كانت تحاول النعاس تذكرت ذلك اليوم المشئوم حينما استيقظ صباحًا كالمعتاد، ونظر إلى ساعته، ورفع رأسه من فوق الوسادة واجتاز الصالة، بمشيته الرشيقة، وعينيه المسددتين إلى الأفق، ثم تناول  إفطارًا مع كوب شاي، حاولت أن تتجه ناحيته مباشرة لتقبله وترتمي بين أحضانه كعادتها كل يوم، ولكن التوى كاحلها بين طيات السجادة المفروشة، بينما هو همَّ بالمغادرة مسرعًا لعمله، ونزل درجات السلم، فوقفت تراقبه من خلف النافذة حتى خطا الشارع، حاولت أن تنادي عليه، ولكن صوتها لم يطاوعها، وانتابها إحساس غريب لحظتها، وكأنها الرؤية الأخيرة، أو مشهد الوداع.
 حاولت طوال اليوم أن تهرب منه بلا جدوى، أنين مكتوم بصدرها، وجسدها انتابه الوجع بكل جزء، ولم تعرف سر ذلك الحزن الدفين الذي غاص بأعماقها، ولا انقباضة قلبها، ساعات قليلة مرت عليها كالدهر، وهي تترقب عودته، ولكنها  كانت النهاية التي لم تفارقها طوال عام، فقد عاد إليها جسدًا مكفنًا وسط نحيب رفاقه، عام كامل على رحيله، ولم تفارقها تلك اللحظة، ولا تلك الذكريات. 
وقفت منتفضة من مكانها، ثم تحركت قليلاً ونظرت إلى صورته وهمهمت بين نفسها، وكتبت على الورقة الأخيرة بيدها جملة بل جملتين، عادت تقرأها فلم تمزقها، وقررت أن تنطلق من خلالهما في رحلتها مع الحياة: "فلتكن تلك البداية، فهذه هي إرادة الله".
 

تابعنا على فيسبوك

. .
izmit escort batum escort
bodrum escort
paykasa bozum
gazianteplie.com izmir escort
18 film izle erotik film izle
deutsch porn