عبدالحى عطوان يكتب: جدران الصمت القاتلة
اعتاد يوميًا على قراءته، فقد أدمن مطالعته رغم عدم إيمانه الشديد به، فهي كلمات تُكتب في جريدته المفضلة تحت عنوان «حظك اليوم»، البعض يراها مجرد عبارات جوفاء ينساها بمجرد تركه للجريدة، والبعض يتخيلها مرادفة لأحداثه اليومية؛ فيتفاءل بها، لكن هو يراها نوعًا من السخافات والفراغ العقلي، بل كان يندهش بشدة إذا صادفه من يحزن بحزن كلماتها أو من يفرح ويبني يومه على تفاؤل عباراتها.
هكذا مضت به سنوات العمر، فقد عاش حياته داخل تفاصيل كثيرة، فطفولته لم تكن سعيدة؛ فقد كان الأب قاسيًا صلبًا دائمًا ما توحي ملامحه بالجمود، والأم أميّة لا تجيد التعبير عما بداخلها، والظروف لم تكن بالميسرة، هكذا ظل هو وإخوته يرتدون ثياب بعضهم البعض بعد عدة عمليات تجميلية بسيطة، بخلاف الابنة آية التي كانت تحظى باهتمام أمها دون إخوتها،
مرت السنين ولا يزال يقبع بذاكرته ذلك الخوف الذي كان ينتابه حينما كان يختلس النظرات إلى والده ويراه متجهم التقاسيم شارد الذهن، وكأن ابتسامته تخلق منه شخصًا ضعيفًا، هكذا قست الطبيعة عليه في نشأته، حتى المرأة الوحيدة التي تزوجها رغم إنجابه منها ولدين وبنتًا، إلا أنه لم يجد معها الانسجام التام والأحلام الدافئة، رغم أن أقرانه كانوا يحسدونه عليها، فهي جذابة ممشوقة القوام تسمح لخصلات شعرها بالانسياب بعفوية، ولكنها عصبية أبعد ما يكون عن التفاهم، صراخها المستمر جعل من المنزل جحيمًا على الأرض لا يطاق.
هكذا سارت الأيام بحلوها ومرها، رغم كل محاولاته أن يروي وجهها العبوس بجداول الحنان، إلا أنه فشل، فقد جعلت من الحياة رمالًا وصخورًا وأدوية عابسة غاضبة مكفهرة، فكثيرًا ما جلس بجوارها شاردًا، داخل جدران الصمت القاتلة فكلما اخترقت عيناه دواخلها تبعثان إليها رسائل ندم، وبينما هو غارق فى التفكير ما بين ماضية وحياتة استيقظ صباح يوم ليكتشف الوجه الآخر لابنه الأكبر الحاصل على مؤهل عالٍ، ولم يوفق في فرصة عمل حتى انطوى على نفسه داخل جدران صمتا طويلا ، حتى بدأت ملامحه تتغير، وطالت لحيته وأوقات نعاسه بل أهمل في هندامه ونظافته، وأصبحت العصبية والألفاظ البذيئة هي السمة الغالبة لحديثه.
ظل الأب طوال الليل مستيقظًا يصارع النعاس، فلم يغمض له جفن، يحاور نفسه، ماذا حدث به؟ وما آلمه؟ ولمَ تغير هكذا؟ لماذا انطوى داخل جدران الصمت القاتلة؟، فقد كان هادئًا دمث الطباع، ودودا ، هل جعلت منه البطالة وحشًا عدوًا للطبيعة؟ هل أصبح عازفًا عن الحياة نادمًا على تعليمه؟
حاول الأب أن يقترب منه قليلًا، نظر إلى عينيه التي لفحهما السواد؛ فأحس بارتجافات قلبه ودقاته اللاهثة، ودون تفكير احتضنه بين ذراعيه باكيًا فقد أفاق من غيبيوبة طويلة، فقد دفن حياتة لسنوات ما بين قسوة الأب وما بين وجع الأيام وعوزتها، وتناسى أبناءه فى دوامة طويلة، عانقه بشدة، ضغط عليه بقوة، فقد أراد أن يخترق ما بداخله لكنه كان متأخراً ، سنوات طويلة قبل أن يمزق ذاك الجدار ويدرك ما إصابة ،
لحظات بينهما لم تطل طويلاً ، فقد خرج الأبن من داخل أسوار سجنه ، وتفوه ببضع كلمات قليلة غير مفهومة وكأنه أراد أن يصل رسالة للدولة وللمسؤلين، ولكل الاباء فصمتة طويلا داخل سنوات بحثة مكن منه صراعا داخليا ينازعه بين روحه التى ماتت وجسده المتشبث بالحياة ، مثله مثل الالاف من الشباب يموتون قبل ري أرضهم وحصاد زرعهم، بينما الاب وقف مهزوماً محاولاً أن يخرجه من ذلك الصراع دون جدوى أو معطيات فلم يجد سوى أن يحادثة عن كلمات جريدته حظك اليوم فقد تصدق مرة فى العمر قبل الممات