عبدالحى عطوان يكتب: الأم والحوار الصامت مع ابنتها "جزء ثانٍ"
وقفت الأم المرتشفة بأعماقها ورجفات جسدها التي تكاد تفضحها، بغلال قاتمة من الدمعات وبنظرات تائهة ما بين جدران المستشفى وحوائطه، فهي لا تستطيع أن تواجه ابنتها وهي ممدة على السرير وحولها عدد من الأطباء يقومون بفحصها لمعرفة دائها الذي جعلها وكأنها بين سكرات الموت.. لحظات ثقيلة لا يحتملها الجميع بينما الأم بدت شاردة متأملة تارة ونادمة تارة، وباكية منكسرة تارة أخرى، فوخزات الضمير بدأت تطاردها، وأفكارها عادت بها للوراء حتى سنوات الطفولة للبنتين.
استرجعت بذاكرتها كيف كانت تفرق بين معاملتهم ا فبدأت أنفاسها ترتفع في هلع، بشكل متلاحق، فقد أحست بأنها جزء من مشكلة ابنتها التي ترقد مريضة، بل من داخلها كانت تردد أنها الجزء الأكبر الذي جعل منها تلك الشخصية المنطوية والمضطربة نفسيا، حتى بدأت تتساءل بداخلها؛ هل كانت معاملتها لها انتقاما من معاملة والدها الحاج عبد الصبور لها؟!، فقد كان قاسي القلب، متحجر العواطف، لا يبوح بمكنونات عواطفه، بل عاش عمره كله لا يبتسم حتى لا يقال عنه ضعيف، حتى وصفوه بالحجري، فقد كان متجهم الملامح، وكثيرا ما عانت من قسوته حتى تكونت بداخلها عقدة أخرجتها بالكامل على ابنتها، أم أن معاملتها لابنتها لأنها كانت تتمنى أن يهبها الله ولدا يكون عوضا عما عانته من والدها القاسي وزوجها العم مصباح الذي عانت معه الفتور بكل ألوانه.
جلست على أحد المقاعد القريبة من السرير الذي تتمدد عليه ابنتها ووضعت يديها حول خدها شاردة مهمومة، فقد لامست الذكريات أوتار قلبها المكلوم، وأثارت موجات حزنها، فقد تذكرت كل شيء مع تلك البنت التي ترقد متألمة بين يدي الأطباء، حتى ارتفع صوت داخلي لها يحادثها أحيانًا فتهمس لنفسها بكلمات همهمة غير مفهومة، ويصرخ بداخلها معاقبًا أحيانًا أخرى، فتنتفض واقفة ترفع يديها متضرعة بالنجاة، مرددة لن يأخذ الموت مني فلذة كبدي، فتهرول إليها الابنة الكبرى تحتضنها ممسكة يديها المرتعشتين، حتى يهرب من جوفها الخوف.
مرت الدقائق ثقيلة على الجميع حتى قرر الأطباء دخولها العناية المركزة، فقد طفت تداعيات الجلطة على كل ملامحها حتى اغتالت براءتها الهادئة فقد كانت نتيجة ما تعانيه نفسيا بالدرجة الأولى، فرغبتها بالموت وفقدان الحياة أوقف لديها بعض الوظائف الديناميكية للجسم، حتى استسلمت لآلامها التي تراكمت من معاملة الأم والتفرقة بينها وبين أختها الكبرى دون البوح بها، حتى جعلت من داخلها بركانًا مظلمًا ثائرًا طوال الوقت، ومع مرور الأيام وهي ترقد بالعناية، كانت الأم لا تفارقها، تقبل خصلات شعرها وتبلل وجنتيها بدموعها الدائمة، بينما البنت تنظر إليها في حوار صامت، وكأنها تعاتبها على سنواتها التي مضت دون دفء المشاعر، حتى جاءت اللحظة الحاسمة، وأكد الأطباء سلامتها تماما وقرروا خروجها، فسجدت الأم على الأرض شاكرة، متعهدة نفسها بتعويض تلك الابنة حرمان السنين.