الحفاظ على الدولة الوطنية
يحلم جميع المصريين بدولة وطنية ديمقراطية حديثة يحكمها الدستور والقانون، ويسودها العدل والمساواة، دولة تتخطى مشاكل الماضى البغيض وتنهى زواج المال بالسلطة وتلغى الطبقية والتمايز الفوقى؛ لتصبح مصر لجميع أولادها بلا استثناء، دولة تحقق العدالة الاجتماعية وتحولّها إلى فعل وواقع نعيشه، وليست مجرد شعارات يرددها المسؤولون عند الحاجة، دولة تؤمن أن توفير السكن الآدمى والعلاج المجانى والتعليم الجيد ومنح الجميع فرص متساوية فى العمل والترقى واجب وليس منحة، دولة تضع الرجل المناسب فى المكان المناسب وتعتمد على الكفاءة والخبرة وليس أهل الثقة والحظوة، دولة تتقاطع مع الرشوة والواسطة والمحسوبية وكروت التوصية، وتقضى على النظرة الطبقية المتعالية، كل ذلك وغيره يمكن أن يتحقق شريطة خلق إرادة حقيقية وواضحة من كل المصريين "حكومة وشعب" بداية من رئيس الجمهورية وصولًا لأصغر مواطن فى أرض الكنانة.
لا جدال أن ما أعلنه الرئيس عبدالفتاح السيسى مؤخرا من سعى الدولة لمواجهة الفساد بكل قوة أمر شديد الإيجابية مع صدق النوايا والعمل الجاد، وهو ما يجب أن يكون الخط الأهم فى سنوات ولاية الرئيس الثانية بعدما نجح إلى حد بعيد خلال ولايته الأولى فى الحفاظ على مكونات الدولة الوطنية، وهو ما يجب أن نؤيده ونسانده وندعمه خاصة أننا سبق وطالبنا به أكثر من مرة وقلنا وما زلنا نؤكد أن الحرب ضد الفقر والفساد لا تقل أهمية عن الحرب التى تخوضها الدولة ضد الإرهاب، فلا مستقبل لمجتمع جاهل، لا مستقبل لشعب يتم إفقاره ونهب ثرواته، لا مستقبل لشعب لا يُعلى من قيمة العمل والإنتاج، لا مستقبل لشعب يرى أبناؤه أن طريقهم للثراء لا يتحقق إلا من خلال تجارة المخدرات والسلاح والآثار أو من خلال السمسرة والنصب و"التلات ورقات" أو عبر إعادة تجارة الرقيق الأبيض، لا مستقبل لشعب لا يعرف حقوقه ويحصل عليها ويلتزم بواجباته ويؤديها، لا مستقبل لوطن ينخر الفساد فى كل أركانه، وينهشه مثل السوس، لذا نحتاج جميعًا إلى وقفة صادقة مع النفس، نحتاج أن يعترف كل واحد فينا بأخطائه سواء حكومة وشعب، دولة ومجتمع، مسؤولين ومحكومين.. ونبدأ فورًا فى تطبيق دولة الدستور والقانون على الجميع دون استثناءات، ودون صفقات سياسية كانت دائمًا سبب تعطيل مسيرة الدولة طوال العصر الحديث.
الواقع أن دعوة الرئيس السيسى لمحاربة الفساد أمر يحتاج أن ندعمه بشكل شعبى واسع خلال الولاية الثانية من حكمه، ويمكننا تعزيز أدوات الرقابة الشعبية لكشف كل الفاسدين ومحاسبتهم، ولا مانع من الاستفادة من تجارب دول أخرى فى مكافحة الفساد، ففى أوغندا هناك تطبيق على "الموبايل" يتم تصوير أى واقعة فساد وبثها بشكل مباشر لكل الشعب حتى يكون الفاسد عبرة لغيره، وفى اليابان يتم إعدام أى فاسد حتى يكون عبرة أيضًا، وفى بلاد أخرى يتم نشر أسماء الفاسدين فى كل وسائل الإعلام لكشفهم، وللأسف فى بلادنا يتم التصالح مع اللصوص وناهبى ثروات الشعب وقوته، بل ونفاجأ بعد كشف كل قضية فساد بإصدار جهات التحقيق قرار بمنع النشر فى تلك القضايا وكأن المطلوب التستر على الفاسدين والتعايش مع الفساد، وهو ما يخالف دعوة الرئيس وإرادة الشعب، وهناك من يتساءل.. لصالح من يتم إخفاء حقيقة العديد من قضايا الفساد ومنع الشعب من متابعتها ليعرف ويتعظ ويفهم أنه لا أحد فوق المحاسبة، لصالح من يتم التعتيم على هذه القضايا رغم أنها تمنح المصريين ثقة فى أن مستقبلهم أفضل وأن أى فاسد سوف تتم محاسبته؟
كل ذلك وغيره يستوجب تعديلًا حقيقيًا فى القوانين يمنح الشعب حق معرفة ما يجرى فى تلك القضايا، علاوة على إصدار قانون حرية تداول المعلومات حتى ننتصر لدولة الدستور والقانون والمعرفة وصولًا إلى محاسبة كل مسؤول وكل مواطن عما يفعل بالقانون وليس بـ"الصفقات المشبوهة"، ونتخلص من دولة "اللى ليه ضهر مينضربش على بطنه" التى حوّلت المجتمع إلى غابة البقاء فيها للأقوى والأكثر فسادًا وبلطجة.
ورغم أخطاء الحكومة والأزمة الاقتصادية وارتفاع الأسعار بشكل مبالغ فيه، والتأثير السلبى لتحرير سعر صرف العملات، وبعدما شربنا الدواء المر للإصلاح الاقتصادي، علينا إدراك أننا لن نعبر الأزمة إلا معًا، ولن نبنى الوطن إلا معًا، فكما سبق أن نجحنا فى إفساد وتعطيل مخطط تفتيت مصر - الذى سعى له الحلف الصهيو أمريكى وأذنابه فى إطار مخطط الشرق الأوسط الجديد - عندما كنا يدًا واحدة فى ثورة 30 يونيو وما بعدها، فلا بد أن تستمر أيدينا متشابكة ومتلاحمة أمام الأمواج المتلاطمة والرياح الشديدة التى تضرب الوطن والمنطقة كل يوم، وعلينا أن نبنى جسور الثقة بين الرئيس والشعب، فالتشكيك والهدم لن يفيدان أحدًا، والجفاء بين أبناء مصر لن يستفيد منه إلا أعداء الوطن، لذا يجب أن نصبر حتى نعبر الأزمة، ولا بد أن نسانده وندعمه بكل قوة، انطلاقًا من كونه رأس الدولة المدرك لحقيقة ما يجرى فى مختلف الملفات، وهذا لا يعنى شيكًا على بياض له إنما ضرورة وواجب وطنى، لأن أى خلاف بيننا سوف يكون ثمنه باهظًا و"باهظ جدًا"، سوف ينسف أى فرصة لعبور الوطن لبر الأمان.
كما يحتاج الشعب معرفة حقيقة ما يجرى وما سوف يتم خلال الفترة المقبلة.. وهنا لا أطلب كشف ملفات وأسرار الأمن القومى.. إنما اطلاعه على حقيقة ما يجرى واعتباره شريك وليس مجرد قطعة شطرنج، حتى يطمئن قلب كل مواطن، كما قال لى أحد الأصدقاء فى مكالمة هاتفية "احنا بنحب بلدنا ومستعدين نتحملوا كل شىء حتى الجوع بس المهم نعرف احنا رايحين فين وإيه مطلوب مننا وهنتحمل قد إيه وهنوصلوا لفين"، الحوار المباشر بين الرئيس والشعب ضرورى حتى يعرف كل مواطن كيف يسهم فى انتشال الوطن من تلك الأزمة الخانقة..
يحتاج الشعب نخبة جديدة واعية قادرة على ترجمة رسائل الرئيس للمواطن دون لبس ودون غرض أو مصلحة شخصية والتخلص من نخبة فاسدة وجماعات مصالح أرهقت الدولة.. فتماسك النسيج الوطنى حائط الصد الأهم لأى محاولة لهدم الدولة فى ظل صراع إقليمى ودولى معقد ومرتبك وشائك.. صراع إقليمى ودولى لن يحترم إلا الأقوياء والأذكياء.. وأول مواطن القوة يكمن فى تماسك النسيج الداخلى للمصريين.
كل هذا وغيره يجعلنا نطالب الدولة بتبني خطابًا إعلاميًا واضحًا، لأن غياب المعلومات يفتح الباب واسعًا أمام الشائعات والجدل والبلبلة والتشكيك وهى أشياء غير مطلوبة فى تلك المرحلة الحرجة من عمر الوطن، علاوة على أهمية الاستماع للمطالب الشعبية بإقالة أى مسؤول أثبتت الأيام فشله المتكرر فى إدارة الملفات المسؤول عنها، لدرجة أننا نعانى منذ فترة من مسؤولين بدرجة سكرتارية لا يقدمون ولا يؤخرون، وليس منطقيًا أن يظل الرئيس عبدالفتاح السيسى يدفع بمفرده فاتورة استمرار هؤلاء المسؤولين، وهو ما يستوجب إحداث ثورة شاملة فى الحكومة القادمة بعد حركة المحافظين إضافة لتطوير الجهاز الإدارى للدولة، لأن ذلك الأداء الباهت لدى بعض المواقع يُفقد الرئيس جزءًا من شعبيته كل يوم فالناس لا ترى إلا الرئيس الذى تحمله المسؤولية.. كل المسؤولية.. وهذا واقع شعبنا شئنا أم أبينا، كما أن الناس لا تشغلها الشعارات الرنانة، ولا الحديث العاطفى، إنما تبحث عن الوطن من خلال دخل يغطى احتياجاتها الأساسية، استقرار يمنحها الثقة فى المستقبل، فرص جيدة للتعليم والأمن الصحى والسكن والعمل والترقى، كما لا بد أن تكف الحكومة والبرلمان ومؤسسات الدولة عن إشعال الأزمات يومًا بعد الآخر وتحميل المواطن ما لا يطيق، وإدراك أن فاتورة الإصلاح لا يجب أن يتحملها جيل واحد فنقتله وهو على قيد الحياة أو ينفجر فيحدث ما لا يُحمد عقباه.
ويبقى الرهان على وعى المصريين حائط الصد الأهم والأبرز لمواجهة المخططات الخارجية، والأخطاء الداخلية، وتحمل الصعاب من أجل الوطن، فنحن أمام شعب شديد الوعى.. شديد الوطنية.. شديد الحرص على استقرار بلاده، شعب تحمل الظروف الاقتصادية الصعبة خوفًا على الوطن وبحثًا عن استقراره، وربما هذا ما جعل السيسى يعلن تقديره تحمل المصريين لتلك الظروف لأنه يدرك أن غلاء الأسعار كان مؤلمًا جدًا، ولا يمكن أن يتحمله إلا شعب بحجم ووعى المصريين، وهو ما يجعلنا نطالب مؤسسات الدولة أن تقدر مساندة الشعب لها عملًا بمنطق "إن كان حبيبك عسل متاكلوش كله"، فإذا كنا نطالب الشعب بالعمل والإنتاج والتلاحم الوطنى وتحمل المسؤولية فمن حقه أيضًا أن يجد عدالة اجتماعية وخدمات أساسية مناسبة وفرصة عمل تناسب مؤهلاته وقدراته وأن يكون العمل وفقا للقدرات وليس وفقًا للحالة والطبقة الاجتماعية، ولا يكون هناك تمييز بين مختلف أبناء الشعب إلا بالكفاءة والخبرة، وفى المقابل لا بد أن يدرك الشعب حجم ما تقوم به الدولة من تفكيك للشبكات الاحتكارية التى تكونت على مدار عقود طويلة وأصبحت "أخطبوط" يعتصر الوطن وينهب ثرواته كل يوم، كما لا بد من تقدير سعى الدولة لتحقيق الاكتفاء الذاتى لشعب يستورد أغلب احتياجاته الأساسية، لذا نحتاج خطة قومية لزيادة الإنتاج سواء من المحاصيل أو اللحوم وغيرها من السلع فلن نضبط علاقتنا بالمجتمع الدولى ما لم نحقق الاكتفاء الذاتى، فيكفى أن إنتاجنا من أعلاف الثروة الحيوانية لا يزيد على 20% بينما نستورد الباقى من الخارج.. ما يؤدى إلى زيادة أسعارها، كما أننا نستورد 70% من القمح الذى نأكله، وصناعة السيارات المصرية لا يوجد بها إلا 20% مكون محلى والباقى مستورد، وهو ما يتكرر بشكل كبير فى العديد من السلع والصناعات.. كما يجب أن تنعكس نتائج المشروعات الجديدة بإيجابية على الشعب حتى يشعر بها ويساندها.
وإذا كنا ندعم الدولة فى قرارتها الاقتصادية الصعبة، ونطالب بضرورة العمل على تعزيز الإنتاج المحلى لتحقيق الاكتفاء الذاتي، إلا أن الحقيقة تجعلنا نؤكد أن الحكومة لم تقدر الآثار السلبية لتلك القرارات التى أدت إلى ارتفاع أسعار جميع السلع بشكل مبالغ فيه، ارتفاع لم تستوعبه ميزانية أغلب الأسر المصرية المنهكة بالأساس، وكان يجب على الحكومة بالتزامن مع تلك القرارات أن تفرض تسعيرة جبرية على السلع لضبط الأسواق. والسؤال.. إلى متى يظل المواطن مطحونًا بين غياب رؤية الحكومة وجشع نادى شبكات الاحتكار الممتدة فى أعماق الوطن منذ عقود طويلة؟؟.
يبقى أخيرًا.. الحرب على الفساد وتحديد المسؤوليات وتصحيح المفاهيم وتعزيز الوعى الجمعى للمصريين يحتاج إلى إعادة بناء العلاقة الإيجابية بين الرئيس السيسى والشعب مجددًا وتعزيز الثقة بينهما باعتباره أمر من الضرورة لعبور السنوات المقبلة.. وهذا يبدأ باعتراف الطرفين بحاجة كل منهما للآخر.. وإدراك أن أى شىء غير ذلك خطر لو تعلمون عظيم.. إلا أن هذا لا بد أن يتم وفقًا لأساليب علمية، وخطط واضحة قابلة للتنفيذ.. وعدالة تطبق على الجميع بلا استثناء.. ثقة تقوم على الأفعال الإيجابية وليست الوعود غير القابلة للتنفيذ، ولا القرارات السلبية، فالعبور للمستقبل لا يتم إلا بالتعاون بين الطرفين "الرئيس وشعبه أو الشعب ورئيسه"، وإدراك أن انفصال أى طرف عن الآخر سواء فى الإرادة أو العمل، بل وحديث أى منهما لغة مختلفة عن الآخر، يعنى بلا شك هزيمة الوطن فى معركة البناء والتنمية، وفقدان الوطن طريقه لاحتلال مكانة لائقة بين الأمم، وفى الأخير فإن إعلاء دولة الدستور والقانون واجب على الجميع، مهما كانت اختلافاتنا السياسية ويجب أن يعى المسؤول -أى مسئول- أن هناك عقدًا اجتماعيًا بينه وبين الشعب، يمكن الرجوع إليه فى أى وقت ليكون حكمًا عند الاختلاف، فلا توجد سلطة دون مسؤولية، ويجب أن يتحمل كل منا مسؤوليته أمام ضميره وأمام الوطن وأمام التاريخ، فمصر باقية والأشخاص زائلون