فضلات حياه
كمن يعبث فى فضلاته بحثا عن شىء ثمين ابتلعه كنت أبحث عن بصيص حياه وسط آلامى واوجاعى بلا جدوى ،فكلما تغلبت على أحدها وتنفست بعض الراحة باغتنى ألم آخر مختلف ،وبتكرار المباغتات أصابنى اليأس وفقدت كل ما تبقى لدى من أمل فى ايجاد حلا لوقف نزيف الآلام ،لذا اضطررت للاستسلام ، وتركت جسدى لمهب المرض ،وسرعان ما تغيرت ملامح وجهى وتلطخت بتجاعيد الكآبه والضجر ،وتخشب جسدى استعدادا لمباراة مضمونه الخسارة، حيث أفرغ طاقته وألقى بها فى سلة فضلات الحياة ، وراح يمتص من بين ضلوعى وأوردتى ماتبقى لدى من ارادة ،ثم طوح بطول يديه كافة مصدات الدفاع والتحدى التى أملكها ، سلبنى المرض ماهيتى وهويتى ، ففى كل مرة أشعر بها بالألم كنت أدرك أنه وجد حلما ما أو طموحا ، بعضا من الفرحة أو حفنة أمل ، سطرا من مستقبل خططت له فى ورقة، نوته كرمشتها و طويتها ذات مرة بين ضلوعى المتورمة باليأس ، وما أن يعثر على هذه الفضلات إلا وألتهمها على مهل وبرحابة صدر ، أشعر باسنانه وحوافره تنغرس وتقضم وتمضغ ليس بشراهة الجائعين ولكن باتيكيت ذوى الياقات البيضاء ،كأنه أحد المدعويين فى أحد المطاعم الفاخرة تستك بين أياديهم اشواك وسكاكين الرفاهية المصطنعة ، ورغم ذلك كان يتلذذ بعدم اللياقة والكياسة فقد كان يتعمد أن يحدث صوتا ليسمعنى قضماته واستكاك اسنانه على عظمى وضلوعى ،امتصاصه وشفطه للاكسجين من بين رئتايا ، صوت بلعومه وهو يبتلع صراخى من النغز ، والأدهى من هذا وذاك كان يجبرنى على تذوق مرارة تجشؤه فى حلقى يحترق صدرى ،فكان يبتلعنى ويتجشأنى ويخرجنى فضلات حياة ،ثم يعيد تشكيل ما قد يصلح منى ثانية ليعيد الكرة مرات ومرات ويتلذذ فى تكرار هذا ، ولم أجد خلاصا منه إلا اذا هربت الى ركن لم يمسسه بعد ، وظللت ابحث حتى وجدت ذاكرتى تلك التى انزوت وسط حطامى ولم يعبأ بها المرض ،غير أنها طالها بعض العطب من الأدوية ولكنها لازالت تحتفظ بقوتها ، فما على سوى أن اباغت المرض وأصل اليها احتمى بها ، وغافلته لأصل اليها ،شعرت بالراحة ان أحيا وسط عالمى القديم وصور احبابى وأخوتى ،ذكريات الطفولة ،البيت القديم والمدرسة والفيونكات ،أول حب وحفلة جواز ،فستان الحمل وطلق الولادة الممتع ،كلمة ماما وحبو رضيع ،وسهر الليل مع أنفاس طفل طابق على نفسى بخفه ،وقفة مطبخ بعدها لمة على غدوة دافية، خروجة رخيصة لأكل الدرة وحمص الشام ،سهرة على كنبة مكحكحة أدام تليفزيون ابيض واسود وشوية لب سوبر ،ويوم القبض مع فرخة مشوية ،صوت شبشب ابويا على سلم بيتى وهو جى يطمن عليه ،وطبخة باميا ورز بشعرية من ايدى أمى ،وبناتى متشعلقين فى ايديا عرايس بنشترى لبس الشتا ، ما كل هذه البهجة والطاقة والحياه ،هنا فقط تنفست وحمدت الرب ، اكتشفت أن لدى حياة لن أسمح أن تصبح فضلات لمرض لعين لا يملك ما أملكه ، فالتفت له وتحصنت بذاكرتى،و كلما هاجمنى أخرجت له سيفا من سيوف حياتى ونازلته وأقسمت ألا أتركه إلا وأعدت تدويره ليدخل بذاكرتى ضيفا كريما اذكره بكل خير واترحم على شراسته بعد أن خجل وانقشع وحفظ ماء وجهه أمام حياه لا تقبل اعادة التدوير .