عبد الحى عطوان يكتب: مات وحيدها فتحولت إلى حطام امرأة هائمة
استيقظ بعد سنوات طويلة من سباته وحياته الروتينية، التي تشابهت فيها الأيام مع بعضها، وكأنها نسخا مكررة لا يعرف كيف مضت ولحكاويها، كيف مرت ولأول مرة ينتبه إليها، يتفحصها، فقد تغيرت صورتها كثيرا، فلم تعد الشابة التي فتن بها، حينما رآها لأول مرة في أحد شوارع المدينة، ولم تصير الأنثى الفاتنة أو المرأة الناضجة، التي كان يحلم بها طيلة مراهقته وشبابه، فقد جفت الدماء من عروقها، وتساقطت أوراق الربيع من على ملامحها، فبدت عليها علامات الوهن، وكأنها تخطت السبعين من عمرها.
لم ينتبه خلال السنوات الأخيرة لتحولها فقد كانت مفرمة الحياة، أكبر من رصد خطواتها أو تغير ملامحها او منحنى نفسيتها وحزنها الدفين، فقد ضاعت أشياء كثيرة وسط العمر لم يتنبه إلى تغيرها، فقد اختفت كل الكلمات الرقيقة من قاموسها لم يعهدها زاهدة تائهة نافرة من كل شيء، همس إلى نفسه كيف تغيرت هكذا، وتحولت الى لغما قابل للانفجار جاءت الإجابة جملا مرتبة داخل مخيلته، فما مرت له قاسته كان حملا ثقيلا على الجبال، فقد حولها الى تلك الكآبة التي صارت عليها، والتي أصبحت تنثرها كلما وطأت قدماها حتى اختفت تماما تلك البدايات الرائعة.
عاد للوراء وتذكر حينما وقعت عيناه لأول مرة عليها كانت تسير وكأنها لا تحمل جسدا فقدماها لا تلامس الارض تخطو وكأنها الفراشة انوثتها نبضها رائحتها هفيف خصلات شعرها الذى يتطاير فوق كتفيها عينيها، وكأنهم ضوء القمر تذكر حينما قبض على يديها بعد عقد القران وراقصها، كانت تفوح منها رائحة العطر أنفاسها تتدفق بهمسات العشق، حتى أحس لحظتها بصهد الأجساد تحرق اشواك الصبار التي نبتت على مفارق الطرق
ولكن جمال الحياة ورونقها لم يدوما طويلا، فمنذ ذلك اليوم المشئوم تغير كل شيء، فلم يرها زوجته التي اختارها، بل شبحا يتحرك على قدميين حزنا وصمتا مميتا، فقد تناست حتى الابتسامة انقلبت حياتها رأسا حينما حملوا ابنها الوحيد الذى تجاوز الخامسة عشرة عاما ملفوفا في أحد الأكفان ليصلوا عليه في المسجد، وحينما سار به المشيعون نحو المدفن يحملاه إلى مثواه الأخير، قاتلت من أجل أن تذهب معهم، فلم يشفع لها صراخها أو لطم خدودها أو تمزيق ثيابها.
عادوا بعدما أنزلاه القبر وقرأ عليه الشيخ عددا من الآيات، وانتهاء مراسم الجنازة، بينما هي كانت تحادث غرفته، صوره، ملابسه، وعند غروب الشمس ومن دون إدراك طارت إلى قبره، لطمت خدودها، مزقت ثيابها، نامت على التراب، أخذت تناجيه أن يعود حتى غابت فاقدة الوعي حتى اقبل زوجها فاحتضنها وعاد بها فطارت على غرفتة تصنع من ملابسه وسادة لرأسها.
ومنذ لحظة فقدانه، لم يفارق الدمع عينيها، سنوات طويلة مضت لم ترفع وجهها عن صورته المعلقة بأحد الجدران، ولم ترتدي الملابس الملونة، فقد تحولت بموته من أنثى كان ينجذب إليها كل من تقع عليها عيناه، إلى حطام امرأة هائمة على وجهها..