عبد الحي عطوان يكتب: على حافة الانتحار
لفت انتباه كل الحاضرين عند لحظة دخوله إلى ذلك المقهى الشهير القابع خلف مجلس المدينة، فهو شاب في الثلاثين من عمره، ملابسه الرثة المتسخة رغم ماركتها، وشعر رأسه غير المنسق ولحيته الطويلة التي بدا عليها شقاء السنين، التي تطرح ألف سؤال وسؤال، ابتعدت بعيني التي بدت تراقبه في الخفاء حتى لا أخترق خصوصيته، أو أسبب له نوعا من الإحراج.
لم أتمالك نفسي حينما أخذتني نظراتي إليه بدافع فضولي، أجبرتني على ذلك هيئته الغريبة، ألقى بجسده كاملًا على ذلك الكرسي الذي يبعد بيني وبينه بضعة أمتار قليلة، كأنه يزيح جبلًا من فوق أكتافه، نام برأسه للخلف فاغرًا فاه، ممددًا قدميه للإمام وكأنه التقى سريرًا هجره النوم فيه منذ سنين، بشكل أثار دهشة كل الجالسين حوله، فقد أراد أن يستريح.
وجدني العامل الذي تعودت على ملامحه الهادئة الودودة وكلماته الداعبة كلما اقترب من مقعدي، شغوفًا به، ونظراتي مصوبة نحوه؛ فاقترب مني قليلًا ومال برأسه عليّ حتى يأخذ كلامه عزلتنا، وهمس بأذني قائلًا: أراك تراقب ذاك الشاب الذي ألقى بنفسه بالقرب منك مندهشًا.. وفي نظرة خافتة أدار برأسه في اتجاهه، وقبل أن يستطرد دفعتني رأسي التي دارت بها العديد من الأسئلة منذ رأيته أن أسأله ما به؟
وقبل أن أتفوه بشيء، سقطت كلماته كطلقات الرصاص، قائلًا: هذا الشاب خريج جامعي بحث عن فرصة عمل سنوات وسنوات، وعندما لم يجد عملًا اشترى توك توك يدر له دخلاً، كان يأتي يوميًا هنا بمركبته ليستريح في منتصف النهار ، وفجأة انقلب رأسه على عقبه، وتغيرت هيئته وطريقة كلامه وأهمل في نفسه، وملابسه وبدأ يبيت على المقاهي حتى اليوم التالي من دون طعام أو شراب.
دفعني ذلك الكلام إلى أن أقترب من مقعده أكثر، رفعت له يدي مع نظرات عيني ملقيًا عليه التحية، فلم يجب!! انتظرت قليلًا حاولت أن أنشغل عنه بهاتفي أو كتابي، ولكن وجدتني ألتفت إليه مرة أخرى أملًا في أن يبادرني بالحوار؛ فسارع في إزاحة عينيه إلى الجهة الأخرى، ثم بدت نظراته تراقب سقف المقهى محدثًا نفسه بهمهمات غير مسموعة، وكأنه أراد أن يصلني رسالة ممنوع الإزعاج بالاقتراب مني أكثر.
مرت دقائق الوقت بطيئة، لم أتمالك نفسي أكثر حتى ناديته بصوت بدا مسموعًا للدائرة المحيطة بنا، سألته كيف حالك؟ وما بك؟ مرددًا خليها على الله!!.. وقبل أن تنطق شفتاه بكلمة ردًا على أسئلتي وقف منتفضًا وقد ظهرت ملامح وجهه مقتضبة وأعضائه مشدودة، موجهًا نظراته نحوي وباستدارة قليلة نحو الآخرين وبصوت بدا مخنوقًا، وشفاه ترتعش بكل الجفاف الذي غطى ملامحها، وقبل أن تأخذه خطواته للخارج تاركًا لنا المقهى، شمل الجميع بنظرات زائغة، وقال بصوت يرتجف: أتركوني وشأني، أنا لست مدمنًا، ولا متسولًا، ولا مجنونًا.
أنا شاب مثلي مثل كثيرين من أبناء جيلي الذين تعلموا ولم يجدوا فرصة عمل ،ضاع طموحي مع الزمن، وخرج مسرعًا وهو يردد الموت أرحم من الحياة..
انتفضت واقفًا أراقب مغادرته لأرى مشهدًا مختلفًا من الدراما الحياتية لعدد كبير من الشباب باختلاف تفاصيلها مصطفاً على الكراسي منهم من يتسلى ومنهم من شاردا فكرا ، ومنهم من انهارت قواه بحثًا عن فرصة عمل فضاعت مكوناته العقلية، ودخل مرحلة الاكتئاب ومن لا يزال متماسكًا، يرسل لنا رسالة تدق ناقوس الخطر، فعلى الجميع أن يتنبه ، قبل أن يغزو الاكتئاب شبابنا ويصبح الكل على حافة الانتحار.