أم القبــــلات ...
12:01am 01/08/19
بقلمي:محمود سلمان
أعلم عزيزي القارئ أن عنواني جذبك بشدة وأثار فضولك حتى النخاع ..
وهذا قد يبدو أحد أساليبي المعتادة في الإيقاع بك في فخ القراءة ..
قد تغضب مني ..
أو تثور ..
أو تتهمني بقصد إثارة فضولك وإخراج مكنونات لهفتك لمعرفة فحوى كلماتي القادمة ..
المنصف هو من سيدرك أنها ميزة فريدة لجذب وجدانك من بحر الشتات والهموم الخارجية لتغرق في مدينة سطوري مستمعا بأذن قلبك لخواطري المتواضعة ..
كانت تسير في الشارع توزع التحايا والسلام على كل من يقابلها في حب وطيبة قلب لم تعهدها عيون وقلوب المصريين كثيرا..
وحين سألتها ذات يوم عن كثرة تقبيلها للأطفال خاصة فوق الرؤوس كلما وجدت طفلا في الشارع أو في المنزل وعدم ضجرها من تكرار ذلك قالت لي : كل طفل صغير غير مدرك يعد ملاكًا يمشي على الأرض لأنه لم يخطئ بعد وصحيفته بيضاء ناصعة حتى لو كان بالغ الشقاوة ومتعب لأهله .. فهؤلاء يا بني لم يعرفوا حقدًا ولا بغضًا ولا يحملون ضغينة لأحد..
هذه السيدة العجوز التي تعيش مع زوجها وأولادها لم يمنعها اختلاف العقيدة والدين عن جيرانها من أن تكون صاحبة رسالة تسامح وتصالح وشريكًا مهما في وادي الإنسانية الحقة لكل من تراه دون النظر أو الاكتراث لأي اعتبارات أخرى ..
كانت تعاتبني حتى تكاد تصرخ في وجهي كلما رأتني أقوم بنشر غسيلي مهددة إياي في حب الأم العطوف وشفقتها بأن أحضر ملابسي لتقوم بغسلها بنفسها وكنت أتهرب منها بالطبع لأنني معتاد منذ صغري على تحمل المسئولية ومساعدة والدتي في أعمال المنزل وأستغرب جدا أن يهتم لأمري شخص لا يعرفني أو مقرب مني ..ثقافة العطاء اللامحدود التي تربى عليها غالب جيلي من شباب وفتيات فترة التسعينات..
وعبثا كنت أحاول اقناعها بكلامي ..
لم تكن ترضى أو تتقبل أعذاري وردودي عليها ..وللحق كنت مشفقا عليها فلديها أسرة كبيرة وكانت تستيقظ مبكرا في نشاط يحسدها عليه الشباب وتظل طيلة اليوم في أعمال المنزل ورعاية أسرتها ومساعدة أولادها الذكور حتي المتزوجين منهم .
كانت نجمتنا الفريدة أحد جيراننا بالمنزل القاطن في حي شبرا العتيق الفريد .. تقوم على رعاية زوجها القعيد على كرسي متحرك وتساعد أولادها في محل الفاكهة الذي يملكونه بأحد شوارع الحي الشهير ..
كما كانت تهتم بنظافة مدخل المنزل وسلمه الصاعد للسطح والشارع أحيانا دون أن تهتم لصحتها أو عنائها من جراء ذلك أو تنتظر مساعدة من أحد ..
كانت نبراسا للتواضع تحمل طاقة إيجابية عجيبة لم تعهدها علوم التنمية البشرية نفسها .. سمحة المعاملة حلوة المعشر لم أعهد في كرم أخلاقها أحدا في مكان يضج بالبشر يحيا فيه كل إنسان في عالمه الخاص ولا يشغله إطلاقا أحوال جار أو قريب أو صديق ..
سافرت للسعودية وعدت بعد غياب عامين ونصف لأسأل عنها أولادها وقد هالني خبر وفاتها وأخبروني أنها ماتت بعد عام فقط من سفري..
رحلت النموذج الجميل عن دنيانا بلا مرض ولا ضجيج ..
حزنت جدا لهذا الخبر الصادم وتذكرت كل لحظاتها الرائعة مع الصغار والكبار والفراغ الذي تركته بالمنزل الذي تحول لبيت كئيب موحش وكأنها أخذت روحه وبريقه معها يوم ذهبت ..
هذه السيدة العجيبة كانت تصوم عشر أيام من شهر رمضان كل عام صيام المسلمين كنوع من المودة والحب ومشاركة جيرانها المسلمين فرحتهم ويشارك أولادها في صنع الزينات التي يتطوع لها بعض شباب الشارع في بداية شهر رمضان المعظم بل والأعجب أنها كانت تحفظ بعض سور القرآن وتحب الأناشيد الدينية وكانت تفخر بذلك في كل مناسبة..
كانت ( أم القبلات ) تعبر عن علاقة تليدة ووطيدة بين المسلمين وشركاء الوطن وتعزف ملحمة التآخي والود الحقيقي الخالي من المصالح النابع من القلب ..
حي شبرا الذي يعد سبعين في المائة من سكانه من شركاء الوطن لم أشعر فيه بغربة أو وحدة طوال ثمانية عشر عاما قضيتها هناك ..لا تستطيع أن تفرق بين المسلم والمسيحي في التعامل .. فتجانس العادات واختلاطها والقرب من بعضهم في الأفراح والأتراح خلق منهم شعبا آخر ومثالا يحتذى به في حب الوطن ..
تحية واجبة لروح الغالية الراحلة ( أم مجدي ) بقدر طهارة روحها وصفاء قلبها .
تحية إعزاز وإكبار للباسمة القلب والشفاه القابعة تحت التراب في عالمنا الآخر ..
تحية وفاء لها ولمن هن على شاكلتها ..
مهما طالت بنا الحياة أو قصرت ..
فالإنسان يرحل ويٌنسى ..
وتموت معه كل ذكرى ..
ولكن البعض منا فقط يرحل ..
ليبقى.