عبدالحى عطوان يكتب : سماح ورحلة لم تنتهِ بعد
انتفضت الأم مضطربة فقد انتاب جسدها رعشة شديدة ،عندما أحست أن ابنتها تعانى صراعاً داخلياً لا تريد البوح به، فكلما واجهتها وارت سماح وجهها بحزنها الدفين هرباً، لحظات بدت وكأنها دهرٌ بين صراخ الأم وتساؤلاتها ، وصمت الابنة وتيهها وحزنها،أخذت الابنة قرارها فقد كانت تحتاج إلى ذلك كثيراً، اقتربت بخطواتها قدماً لترتمى فى أحضان أمها بكل تفاصيل جسدها، غاصت برأسها فى خلجات صدرها، حاولت أن تتنفس تنهيدة تكسر بها حاجز الصمت ، لكن كان احتياجها لإحساس الأمان أكثر كثيراً من أن تهدأ من صراع أنفاسها المتلاحقة، حتى شعرت الأم بمدى ضعف ووهن جسدها بين يديها،فضمتها بقوة ، بل ضغطت بكلتا يديها على ظهرها وضلوعها، وكأنها تحتضن زوجها الذى عشقته لأعوام طويلة لتشعرها بنبض قلبها .
حاولت الابنة أن تفتح عينيها بصعوبة، كأنهما ملتصقتان بالصمغ، تلفتت متوارية حتى تبتعد عن مواجهة عينىْ الأم ،نظرت إلى السقف والجدران وإلى ذلك الدولاب الذى كانت تخبئ فيه ألعابها، وعروستها الصغيرة ومكعباتها ومناديلها الملونة والمزركشة بالحروف ،ثم لاذت بملامحها لتوقف الدموع التى انسابت على خديها فلم تستطع، قالت بصوت واهن، عندما أغوتنى نداهة المدينة لم أقاومها فقد أحسست أن سحراً اجتذب روحى، أخذنى فى دروب كبيرة ،عشت بشوارعها خيالاً يتوق لعلماً يخترق قلبي، يشد انتباهى،يكسر الجمود بعقلى، كانت سنوات دراستها كقطرات المطر ترويني تحتضني بلا ذراعين! تحتوينى بلا سبب أو ميعاد لكن أحلامي كلها ضاعت تلاشت كالبخار !!
تجهّم وجه الأم كثيراً وتغيرت ملامحها، بل عاودتها الغيمة الحزينة التى ظلت تطاردها ليلة الأمس، وارتسمت علامات الاستفهام الكثيرة على وجهها ؟ فقد شعرت الأم بالصراع الداخلى لابنتها وبالآلام المكنونة بأعماقها، بل انتاب جسدها رجفة شديدة لم تتمالك نفسها معها وصرخت قائلة:أى خطب قد أصابك؟!... تكلمى حتى يهدأ الغليان المتأجج بأعماقى، فقد تاه عقلى فى زنزانة مظلمة، وبركان الخوف اغتال أعصابي ،
حاولت سماح أن تستجمع قواها، تنطق بكل ما تعانيه، زاغت عيناها نحو السطح قليلاً، ثم نطقت بكلمات تنقصها الكثير من الحروف ومغلفة بالحزن الدفين ، قائلة لقد انتهت الرحلة، وصرت أحمل هماً، لم يترك لى سوى صوراً مرعبة بداخلى لوحش ابتدأ ينهش بجسدى، وبينما انتاب الأم الذهول وبدأ عقلها يسبح فى ضلالات أفكارها المتقلبه، خطت الابنة بضع خطوات صوب حقيبتها التى لازمتها سنوات ذهابها وإيابها للمدينة الصاخبة، وأخرجت بضع أوراق وصوراً للأشعة والتحاليل قائلة: لقد انتهت الرحلة يا أمى، وقريباً سيتحرر جسدى من سلاسل الخوف الطويل ، لقد انتهى كل شئ، النداهة وأحلام المدينة الصاخبة فلم أستمتع بالطين الذى امتزج بجسدى، ولابالحياة التى عشقتها روحى،
أخفت الأم صراعها مع صراخها وبكائها ولطم خدودها واحتضنت ابنتها بقوة، ورددت بابتسامة ستعيشين عمراً طويلاً حتى أحمل أحفادى منك، أنت قوية، وكما كسرتِ الجهل والعادات والتقاليد ستكسرين ذلك اللعين ،إنها إرادة الله وقضاؤه،والرحلة لم تنتهِ بعد !
سماح والنداهة...سماح والمدينة الصاخبة...سماح ورحلة لم تنتهِ بعد.