الابتلاء نعمة ومنحة بقلم : منى صدقى
لا شك أن جميعنا يدرك ويعي معنى الابتلاء بالشر، وجرَّبه ولاذ بالله، داعيًا ومتوسلا أن يصرف عنه السوء والشر من مرض أو فاقة.
لكن من يلتفت منا ابتلائه سبحانه وتعالى لنا بالخير!!؟؟ فكم من نعمةٍ كانت اختبارًا للمنعم عليه ورسب فيه العديد إلا من رحم ربى.
والحقيقة أن الاختبار بالنعم أصعب وأدق من الاختبار بالشرور والبلايا الذي نألفه وتجرعناه كثيرا.
قال بعض العارفين: «رُبَّ مستدرج بنعم الله عليه وهو لا يعلم، ورب مغرور يستر الله عليه وهو لا يعلم، ورب مفتون بثناء الناس عليه وهو لا يعلم»!
نِعم الله عطِية لكن لا تجعلها تجرك للهو أو طغيان، وستر الله عطاء فلا تجعله يصيبك بالغرور ويشدك للتمادي.. فثناء الناس خير لكن إياك أن تُصدّق وتغتر.
إن قدوتنا وإمامنا عليه الصلاة والسلام كان يستعيذ بربه ويقول فى دعائه: «وأعوذ بك من فتنة الغنى»، وما أصعبها من فتنة عاصفة..
انظروا لقارون الذى كان من قوم موسى وقد وهبه الله من المال الكثير فكان هلاكه فيه وخسف الله به وبداره.
وانظروا لقصة الأبرص والأقرع والأعمى من بنى اسرائيل؛ فقد صلحوا وهم في بلاء النقص، وسقطوا حين وهبهم الله العافية والمال، إلا الأعمى إذ قاله له الملك الموكل باختبارهم :"أَمْسِكْ مَالَكَ، فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ، فَقَدْ رُضِيَ عَنْكَ وَسُخِطَ عَلَى صَاحِبَيْكَ".
فالابتلاء بالضعف بكل صوره يستنفذ العزيمة، ويشحذ الهمم على المقاومة، والتضرع إلى الله.. والابتلاء بالقوة بكل صورها من عافية أو مال وغيره ترخى الأعصاب، وتثبط العزائم وتركن النفس للدعة والفتنة.
فى الصحيحين مِن حديثِ عَمْروٍ بْنِ عَوْفٍ -رضي اللهُ عنه- أنَّ رسولَ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلم- قال: "فَوَاللَّهِ مَا الفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ"..
الله الله فى الصبر على النعم.. فكم من مبتلى بالمال ومغرور بالصحة وفاجر بالنعيم.
هل عرفتم فى الدنيا نعيمًا كذلك الخدر الجميل والنشوة الساحرة التى يبثنها فينا احساس الحب، وما أبهى أن يلقاك الناس بالحب..
لقد ابتلى سيدنا يوسف الصديق عليه السلام بجماله وما نال من الحب إلا بلاء، أحبته عمته فاتهمته بالسرقة، وأحبه أبوه فكاد له أخوته وألقوه في الجب، وأحبته إمرأة العزيز فألقي في السجن.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: (النفوس تكتسبُ من العافية الدائمة والنصر والغنى طغياناً وركوناً إلى العاجلة)..
لا حول ولا قوة إلا بالله، تأملوا معي هذه الآية: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ).. ما أعجب قوله تعالى فتحنا عليهم أبواب ولم يقل فتحنا لهم، إنه فتح عليهم وليس لهم بما نسوا ربهم.
قال ابن الجوزي -رحمه الله-: "الرجل كل الرجل مَن يصبر على العافية".. وقال بعض السلف: "المؤمن يصبر على البلاء، ولا يصبر على العافية إلا صدّيق".
وقال عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه-: "ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر!".
أحبتى في الله.. إنه اختبار صعب خفي لا يفطن إليه إلا كل كيس يقظ، ولا ينجح فيه إلا مدركا لحقيقة النعم وفضل المنعم وحمده.
احذروا وانتبهوا ولوذا بالله تنجوا، وتَقَربوا بالشكر لتستمر النعمة وتكن بردا وسلاما وقربى إلى الله.
احذروا.. فالعافية ابتلاء، والغنى ابتلاء، والحب ابتلاء، والسلطة ابتلاء، والنجاح ابتلاء، والعلم ابتلاء؛ كلها فتن لمن لم يحترز ويحذر ويتحصن بالله.
قال -صلى الله عليه وسلم-:(أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا)، قالوا: وما زهرة الدنيا يا رسول الله! قال: بركات الأرض)..
حتى بركات الأرض فتنة تلهى وتنسى وتشغل وتبعد عن الله، والمُلك فتنة جعل البعض يظن أنه ينافس الله فى ملكه، والسلطة فتنة لظلم الناس بما لا يرضى الله، والمال والبنون فتنة يجر إلى اللهو عن ذكر الله.
إحذروا واعلموا { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ }.. احذروا كما قال السلف "إذا رأيت الله يتابع عليك نعمه وأنت مقيم على معاصيه".
احذروا وتمثلوا بقول نبى الله سليمان وقد أوتى ملك لم يؤت لأحد حين قال (قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ)،
تلك هى اليقظة والفطنة والفلاح لتستمر النعم سلاما.
المال والعافية والجاه والسلطان والستر والحب تحتاج لأداء حقها بحمد الله وشكره على ما وهب واستخدامها فى طاعته ورضاه لتبقى.
وختامًا .. لن تزولوا إلا إن تحولت أنفسكم عن الحق فتنةً وغرورًا ولهوًا وتفريطًا.
{ ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ ۙ وَأَنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }