هل جزاء الإحسان إلا الإحسان
عرفتُ منذ أعوامٍ صديقة لي كانت من أكثر الناس حرصًا على مالها،
لا أظنني رأيتُها يومًا تنفق جنيهًا على رفاهية قد تعود عليها بمتعة مثلًا أو سعادة مؤقتة،
كانت دائمة التفكير..
"هذا المال حصلتُ عليه من سهرٍ طويل"
"وهذا المال جنيته من تعبٍ ثقيل"
وهكذا...
تبخل على نفسها فقط وليس على أحدٍ،
لا تحب المغامرة أو التجارة وتكره الخسارة،
فكنتُ أقول لها كلّما جاءتني الفرصة..
"من سيكرم الإنسان بعد نفسه؟!!!
إن كنتِ لا ترين في نفسكِ حقًا عليكِ؛ فهل سيرى الناس لكِ حقًا؟!!"
وعلى الرُغمِ من هذا..
كانت حقًا مستورةً من الدنيا وغدراتها،
لم أرها يومًا إلا سعيدة بما لديها، راضية، لا توفر جهدًا ولا وقتًا على أحد،
بقيتُ في حيرة منها حتى أتى يوم..
انتبهتُ أنها كانت تقرض الناس دائمًا المال، كل من أراد قرضًا حسنًا ذهب إليها، وتصبر بالعام والعامين على مالها حتى يعود، بلا زيادة، بلا فائدة،
قالت لي ذات بوحٍ..
"هذه تجارتي مع الله، وحدها التي لن أخسر فيها"
توقفتُ كثيرًا عند كلماتها،
فكرتُ..
الإحسانُ وجهٌ من وجوه العمل الصالح، وجزاء الإحسان يأتي على الوجه الذي يقدّره الله ويرضاه،
لكنه لا يجب أن يأتي بحسابات عقولنا وأفكارنا،
حينما نتفكّر في قول الرسول صلى الله عليه وسلم..
" صنائع المعروف؛ تقي مصارع السوء"
يهتف العقل..
ما علاقة صنيعة معروف مع إنسان.. بالموت؟!
لكن الحقيقة أن كل صنيعة معروف.. ستر من الإنسان لأخيه،
فيسترنا الله في النهاية،
كنتُ أعلم من زمن قصة الفتاة التي ظلّت وحدها تبكي في موقف الحافلات وهي ترتجف حتى وقف أمامها حارس المحطة وعلِم ضياع مالها؛ ففعل معها ما يمليه عليه دينه وإنسانيته،
ثم يعود الرجل لبيته بعد يوم أو اثنين وقد دبّر المال الذي سيدفعه للمدرسين؛ ليبدأ أولاده دروسهم،
فيسمع من أطفاله أن هذا نجح في امتحان الرياضيات ، وهذا فهم أخيرًا درس النحو الذي كان يكره اللغة العربية كلها بسببه، ويخبرونه أن لا حاجة للدروس، فيقول في نفسه..
"يا رب، ماذا فعلتُ لأستحق منك هذا الجبر؟!"
وقد نسيَ وقفته أمام الفتاة الباكية من قبل، لكن الله لا ينسى!
في قوله تعالى.. "هل جزاء الإحسان إلا الإحسان"
ثقة ويقين أن لا شيء يضيع،
لا ضرورة أن يرد الله علينا إحساننا في نفس الموضع،
فالستر نرجوه في كل موضع.
وأذكر جيدًا طفلًا في العاشرة كنتُ أحفظه بالمسجد، وكان جميلًا رقيقًا، لا يحب الخوض فيما لا يخصه، في يوم طلبتُ منه أن يحكي لي شهادته في مشكلة حدثت بين رفقائه في الحلقة؛ فأقسم لي أنه كان ساكتًا بجانبهم يشغل عقله في التفكير بمطبخ أمه وماذا ستصنع على الغذاء حتى لا يسمع حديث أحد لا يصح له سماعه،
يومها تعلّمتُ منه درسًا جميلًا جدًا،
مضت الأيام وفي طريقي للمسجد وقف أمامي رجل يبيع خيطًا ومعه الإبرة، لم أكن أحتاج الخيط لكن مع ذلك وقفتُ واشتريتُ وصعدت للمسجد،
بدأنا الحلقة وأتي الأطفال وكان فيهم الطفل الرقيق، وقف عندي وهو يتلفّت حوله وقال في أذني بخجل ودموعه تسبقه..
"تمزّق بنطالي من الخلف وانا أصعد على السلم، سينكشف كل شيء.. كيف سأتصرّف؟!!! "
فتحت حقيبتي بسرعة لأتأكد أن الخيط الذي اشتريتُ حقًا معي؛
نظرتُ له بصدمةٍ ودموعي تنساب في صمت..
لم أنتبه لنفسي إلا وأنا أعانق الطفل وأقول له..
"مستورٌ أنت يا فتى والله.. مستور!"
ذهبتُ به إلى الحمام، خلع بنطاله وأعطاه لي وانتظرني حتى خيطته له وأعدته.
هذا الطفل كان يستر أصحابه ولا ينظر لعيوبهم حتى لا تقع في نفسه؛
فكيف عامله الله؟!
ستره كما سترهم، وجزاه بإحسانه إحساناً.
في مجتمعاتنا مثل قديم يقول..
" اعمل الخير وارميه في البحر"
كدلالة على أن الخير نفعله ولا ننتظر الجزاء عليه،
لكن الحقيقة أن نقول..
"اعمل الخير وازرعه بالأرض"؛
فيخرج ثمرًا مختلفًا ألوانه فيه نفعٌ للناس.
الحديث عن الإحسان طويل كالطول بين السماء والأرض
والقصص التي نستشهد بها كثيرة كعدد البشر أجمعين
والموضع هنا يضيق علينا الحديث..
لكن أؤمن أن المعنى قد نزل في النفوس بإذن الله
ووجد موضعًا يعبد فيه الله.
رضي الله عنا وعنكم أجمعين،
وجعلنا وإياكم من أهل الإحسان..
آمين آمين آمين