عبدالحى عطوان يكتب : حالة إنتحار
ظل لساعات متأخرة يناجى عتمة الليل، فلم يقترب النعاس من جفونه، حتى دنا شعاع الفجر من بين شقوق المبنى القديم الذى يقطنه، فجأة أنتفض واقفاً وكأن شئ خفى يدفعه ليهرول إلى النافذة ،فتحها على مصراعيها، قبض بكلتا يديه على أحد جوانب الشباك الخشبى القديم الذى تاهت ألوانه مع الزمن، ألتفت إلى غرفته، جدرانها، سريرها ذى الأعمدة النحاسية، التليفزيون ذى الصندوق الخشبي، تلك المرآه التى لازمته منذ أحضرها عندما كان صبياً، أخذ نفساً عميقاً فكل شئ يطبق على خلجات صدره ليوقف ضربات قلبه، أدار رأسه سريعاً للخارج ، حاول أن يلقى بنفسه للموت ليكتب السطر الأخير فى نهايته، تراجع طارداً ذلك الهاجس،حاول ان يستنشق الهواء لتخرج معه كل المشاعر المؤلمة، همس لنفسه بصوت مرتجف خافت، بعدما حاول أن يوارى عينيه بعيداً عن الدموع والسؤال الذى ظل يطارده سنوات لماذا قدرى هكذا ؟
أحس بلسعة البرد تسرى بين عروقه ، فاغلق شباكه، وعاد الى سريره الذى عمره بعمر غرفته، أطفئ ضوء مصباحه الوحيد وأتكئ رأسه على وسادته بعدما وضع إحدى يديه إسفلها، أدار بعينية لحوائطها ، للسقف، وما أن أغمض جفونه حتى جاءت بذاكرته، صور كثيرة لرحلة حياته، فتلك صورته عندما كان شاباً يافعاً، يحلم أن يمتلك مركبة من مركبات النقل الثقيل فهو يراها من مصادر الدخل الكبير، خطوات كثيرة وسنوات قضاها لتحقيق حلمه، من تعلم القيادة، ومعرفة أنواعها، ومحاولة الأقتراض من البنك، لكن فى النهاية باءت كل خططه بالفشل، لعجزه عن تدبير الأموال والضمانات، لينتهى به الأمر سائقاً عند الغير،سنوات وسنوات ما بين تسلط صاحب المال والعوز، والإحتياج،
حاول أن يهدئ من الصراع الدائر برأسه وأن يتوارى عن الأسئلة التى تطارده، لحظات ووجد المعركة تزداد سخونه، أستدار بنصف جسمه معتدلاً ،عندما جاءت برأسه صورة ذلك اليوم المشئوم، الذى حاول سنوات أن يمحييها من الذاكرة لكن هيهات، فقد ظلت تطارده ليل نهار ،رسمت بفرشاها، وخطوطها وألوانها، مأساة مازال يذكر تفاصيلها،حينما فتح عينيه، ليجد نفسه ملقياً على سرير بأحد المستشفيات محاط بأجهزة التنفس، والمحاليل، وصور لشخوص تبدو باهته المعالم، وطبيب يحاول أن يهدئ من روعه، بعد حادثة مروعة فقد فيها إحدى ساقيه، وعدد من الشرائح والمسامير أخترقت عظام جسمه وكسور بالحوض والغضروف، حاول أن يبكى أن يصرخ،لكن القدر كتب جملته الأخيره أن يعيش سنوات مع العلاج، والمهدئات، والوقوف على أبواب الشحاته، والتامينات،
أغمض جفون عينيه، حاول أن ينام، أدار رأسه للاًتجاه الآخر ثوانى معدودة، حتى طاردته صورة زوجته وأولاده، وصراخها، وصراخهم ليل نهار، فساعات من المعركة الدائمة، ما بين الفقر وضيق اليد، والإحتياج بات حديث الليل والنهار ،قفز برأسه المشهد الأخير للحكاية يوم أن طالبته زوجته بالرحيل بعيداً مع الأولاد وقرار الإنفصال، لينتهى به الحال حبيس تلك الغرفه، ورحلة العزلة، والإنطواء، ليطارده كل لحظه حلم الإنتحار ،وسطر أخير يكتب فيه مات فقير كسيح بدون عزاء،