عبدالحى عطوان يكتب : ذات الرداء الغامق
لم يكن ذلك الرداء الأسود هو اللون الداكن الوحيد الذى عاشت ترتديه فقد باتت كل ملابسها يزينها السواد، وكأنها فى فترة حداد لم تنتهى بعد، فالوانها ونظارتها وخطوط الشال الملفوف على كتفيها الوجه الآخر لمأساة كبيرة، تفاصيل حياة حكمت عليها بالموت وهى مازالت تلتقط أنفاسها، فقد عاشت وسط أسرة محدودة التعليم فقيرة مادياً، لا تعلم عن ذلك القناع القابع خلف الوجوه المبتسمة شئياً فهى ليست بالعالمة التى تجيد قراءة النفوس الداخلية للبشر،
لم يسقط من ذاكرتها ذلك اليوم الذى مضى منذ سنوات طويلة، ما زالت تذكر أدق تفاصيله، فطرقات الباب الخفيفه التى تكاد لا تسمع، والسؤال عن الأب وإمكانية لقائه، ملابسه المنسقة ألوانها، وهيئته، ذلك الشارب الذى يزين ملامحه، تسريحه شعره ، طريقه جلوسه وحديثه المنمق الذى ترامى إلى الأذان من خلف ذلك الجدار الخشبى، ورغبتة فى الزواج منى مازالت أذكره وكأنه لم يمضى عليه سوى ساعات معدودة، نظرات أمى وفرحة عينيها وهى تضمنى وتطوق عنقى، كلماتها ودعواتها، رائحه الهواء التى تغيرت، مازلت اذكر كل التفاصيل، صينيه الشاى ، الأكواب المزركشه بالوانها، الستائر، القماش الذى يغطى ألوان الأنتريه العتيق بأركان الغرفه ،
لم ألتقط أنفاسي حينما نادى على والدى قائلاً لقد جاءك من يطلب يدك، و مابين الفرحة والأندهاش، والف سؤال وسؤال وظيفته، وعائلتة، والإمكانيات، كان رد الأب سريعاً بالإيجاب ،حمل ثقيل على الأكتاف، فالشوارع لا تعرف وجوهنا، لا تعليم ، لا رأى ، لا حرية فى الإختيار،
مضت بنا الحياة بحلوها ومرها، فرحلة سفينة العمر تخطوخطوات ثقيله ، قلة الرزق وضيق الإمكانيات عنوان رئيسى لماسأة الاحتمال، فقد تزوجت من شخص لا يملك من الحياة سوى تقاسيم وجهه، وملابسه الانيقه، وأربعة حوائط ،وتاريخ طويل لعائلته، كتب هو فيه السطر الأخير، عاطل بالوراثة، مضت سنين العمر حتى إستيقظت صباح يوم ولدي إثنان من الأبناء أحدهما مصاب بشلل الأطفال على أعتاب مدارسهم،
وبينما المأساة تجثم فوق صدرى، فلا يعرف النوم طريق جفونى ،فالهم والفكر ونيس وحدتى ،إستيقظتفى أحد الأيام وتحديداً بعد منتصف الليلال والظلام قد أسدل ستائره على المنطقة، على صوت عجلات حقيبتة، وهو ممسكاً بها،ومتجهاً نحو الباب، أسرعت إليه،أمسكت بأطراف ملابسه، وسؤال وألف علامة إستفهام تروادنى، فقد أختلطت كل الكلمات، بل صار الصوت مختنقاً حتى بالانفاس، اشاح بوجهة بعيداً، ردد بكلمات مقتضبه قلية، فقط، مسافراً لبلاد غريبة، دعواتكم لى بالرزق والنجاة،
ومضى العمر وغطى الشيب ملامحنا ،وشيخنا قبل الأوان ، ولم يعد خلالها الغائب من غربته ، ولم يطرق باب ديارنا الساعى ليحمل لى خطاباً أو يزف لى بشرة نهاية الانتظار ، ولو ببضع كلمات، فقد اطبقت على وحدتى، حائرة أسترجع شريطاً من الذكريات، ما بين طفوله تقبع تفاصيلها فى معانى الحرمان، ظلال أشياء عارية، وشوقًا قديمًا، وما بين بقايا شباب وعطر قديم عتيق رائحته تفوح تملا المكان ،وما بين أحساس قاتل بالخوف ، ودروبًا موحشة ، أوجعت أهلها كثرة الترحال، فالعمر قد مضى، وصرت بدون ذنب أرتكبته أحمل كل الألقاب، مطلقه بدون طلاق،ارمله بدون شهادة وفاة ، تكافل وكرامة، غاريمين وغاريمات، فقط أمراة ضاعت أنوثتها وشبابها فى الإنتظار، ما بين حكايات الطفولة وأحلام العشق ضاع كل شئ ، مابين الأنين والضجر وصراخ الأطفال يمضى النهار،
يختلج صبرى بنار الغضب هل أحرر نفسى؟ هل أطلق لها العنان ؟ ألوذ بالفرار !هل أكمل ما تبقى من عمرى ما بين الهجر والحرمان وجدران المحاكم لأحصل على طوق النجاة ؟ أم صبراً طويلاً قد يعود الغريب للديار ؟