صفوت عمران يكتب: الخديوي إسماعيل ورحلته لتحديث مصر .. نجاحات أم خطايا؟!
ولد إسماعيل بن إبراهيم بن محمد علي باشا في 31 ديسمبر 1830، هو خامس حكام مصر من الأسرة العلوية، حيث تولى حكم مصر في 18 يناير 1863، وبعد أربع سنوات أصدر السلطان عبدالعزيز الأول فرماناً في 8 يونيو 1867 منح فيه إسماعيل لقب "الخديوي" مقابل زيادة في الجزية، وتم بموجب هذا الفرمان أيضا تعديل طريقة نقل الحكم لتصبح بالوراثة لأكبر أبناء الخديوي سناً، كما حصل في 10 سبتمبر 1872 على فرمان آخر يتيح له حق الاستدانة من الخارج دون الرجوع إلى الدولة العثمانية، وفي 8 يونيو 1873 حصل الخديوي إسماعيل على الفرمان الشامل الذي تم منحه فيه إستقلاله في حكم مصر بإستثناء دفع الجزية السنوية وعقد المعاهدات السياسة وعدم الحق في التمثيل الدبلوماسي وعدم صناعة المدرعات الحربية، وكان حق الاستدانة من الخارج بداية النهاية لـ"الخديوي إسماعيل" وسبب قرار السلطان العثماني بخلعه عن العرش مصر تحت ضغط كل من إنجلترا وفرنسا في 26 يونيو 1879.
يرى المؤرخون أنه فترة حكم الخديوي إسماعيل تحوى العديد من المتناقضات، فالرجل الذي حصل على السلطة دون معارضة وذلك لوفاة شقيقه الأكبر أحمد رفعت باشا، ظل يسعى منذ توليه مقاليد الحكم إلى السير على خطى جده والتخلص تدريجياً من قيود معاهدة لندن 1840، وعمل على تطوير الملامح العمرانية والاقتصادية والإدارية في مصر بشكل كبير حتى لقبه أنصاره بـ"المؤسس الثاني لمصر الحديثة" في تشبيه بتكرار إنجازات جده محمد علي باشا الكبير مؤسس مصر الحديثة، إلا أنه بعد فرمان حق الاستدانة في 1872 أغرق مصر في الديون التي كانت سبباً في نهاية حكمه بعد 7 سنوات فقط، ثم إحتلال مصر من جانب بريطانيا في وقت لاحق عام 1882.
تبدأ رحلة إسماعيل في الرابعة عشرة من عمره عندما سافر إلى فيينا عاصمة النمسا، ليُعالج من رمد صديدي، فقضى بها عامين، ثم انتقل إلى باريس، لكنه لم يُفتَن بجامعاتها ومصانعها، فلم ينضم إلى جامعة، واكتفى من العلم بقسط من علوم الهندسة والرياضة والطبيعة، وهو قدر لا يؤهل لتكوين عقلية ناضجة متكاملة، لكنه أتقن الفرنسية نطقا وكتابة، وفتنت باريس إسماعيل بشيء آخر، وهو جمال شوارعها ومبانيها، فأراد عندما تولى الحكم أن ينقل باريس إلى القاهرة فكانت القاهرة الخديوية أو منطقة "وسط البلد" الحالية في قلب العاصمة القاهرة الذي شيدت على الطراز المعماري الفرنسي.
خلال 12 عامًا فقط من حكم إسماعيل في الفترة ما بين 1863 و 1875 حفر الفلاح المصري وبالسخرة 112 ترعة طولها 8400 ميل، ومدَّ 910 ميلا من خطوط السكك الحديدية، و900 ميل من الأسلاك التلغرافية، وشيَّد 430 من الجسور والكباري، و64 مصنعاً للسكر، و15 فناراً، وأصلح ميناء الإسكندرية، وبنى أرصفة ميناء السويس، وشيَّد ونظَّم شوارع القاهرة وغيرها من المدن، وكل ذلك عنواين إيجابية في أغلبها فما هي الخطايا التي اقترفها إسماعيل إذن؟!
الواقع .. أنه في سبيل حلمه بجعل مصر قطعة من أوروبا إستدان إسماعيل، فلم يكن لرؤوس الأموال المصرية نصيب في مشاريع إسماعيل الكبرى، لم يقم إسماعيل بتدوير عوائد القطن والإيرادات، واستسهل في المقابل اللجوء إلى الاقتراض، فعندما تولى إسماعيل الحكم، كانت ديون مصر 11 مليون جنيه، فتركها وديونها تقترب من مائة مليون جنيه، وفائدة ديون تبلغ 6 ملايين جنيه، في بلد لم تتعد ميزانيته 10 ملايين ونصف مليون في أقصى سنوات الرواج الإقتصادي!!.
استدان إسماعيل قروضا بـ"ربا فاحش"، وفوائد سمسرة باهظة، ثم أنفقها إمَّا لشراء الأراضي والأطيان، أو بناء القصور الفارهة، أو شراء لقب الخديوي من إسطنبول، وشراء تغيير نظام وراثة العرش ليكون لصالح أكبر أنجاله بدلا من أكبر رجال عائلة محمد علي، أو الاستحواذ على إعجاب ملوك أوروبا في حفل افتتاح قناة السويس.
وبتحليلاً إقتصادياً سريعاً لـ"ديوان الخديوي إسماعيل" سوف نرى أن عاهل مصر أنفق 16 مليون جنيه في إنشاء قناة السويس، 40 مليوناً في الأعمال العامة، 22 مليوناً خسارة إصدار القروض، 20 مليوناً غير واضحة الأغراض التي أنفقت فيها، ليبلغ المجموع الإجمالي 98 مليوناً.
ويقول عبد الرحمن الرافعي، في كتابه "عصر إسماعيل" أن غالبية قروض الخديوي إسماعيل أُنفقت على أعمال لم تكن ضرورية، كالحصول على فرمانات وإقامة الحفلات وإنشاء القصور، وغيرها من الأعمال التي لا تأتي بأي إيراد مالي يمكن أن يُسدَّد منه فوائد الدين وأقساطها، وضاع جزء كبير من القروض كـ"مصروفات سمسرة"، ولم تستفد مصر إلا بأقل من نصف المبالغ المقترضة، وهو ما أُنفق على الأعمال العامة.
ويرى أحمد رشدي صالح، في كتابه "دراسات في تاريخ مصر الاجتماعي، سلسلة تاريخ المصريين" أن إسماعيل أخطأ للمرة الثانية في تنحية أهل مصر، والاعتماد على الأجانب والشركات الأجنبية في تنفيذ مشروعاته، وهؤلاء لم يكونوا أبداً من المخلصين، بل ثُلة من اللصوص والأفاقين، وتصفهم الكتابات الأوروبية نفسها بأنهم "حثالة أوروبا" التي قذفت بها أمواج شمال البحر المتوسط إلى شاطئ الإسكندرية، وأنهم من "المشبوهين وأرباب السوابق"، ومن الأمثلة على خسة أولئك الأجانب أنهم قدَّروا تكاليف الإنشاءات بأضعاف تكلفتها الفعلية، فقد أخذ من تعهَّدوا لـ"الخديوي إسماعيل" بإنشاء مرفأ الإسكندرية 80% فوق ما يستحقون، وأخذ من كانوا يمدون السكك الحديدية أكثر من أربعة أمثال ما يستحقه العمل، وكذلك فعل من أقاموا معامل السكر وآلات جلب المياه وغيرها، وبعد 12 عاما من حكم إسماعيل بلغت ديون مصر نحو 100 مليون جنيه، استفادت أرض الكنانة من 40 مليون جنيه فقط في الأعمال العامة، وذهب 20 مليوناً للدائنين ووكلائهم على هيئة سمسرة، وتكاليف أخرى ما أنزل الله بها من سلطان.
كما أخطأ الخديوي إسماعيل حينما تملَّك فؤاده شغف بزخرف الحياة الأوروبية، ففي محاولته لتحديث مصر اهتم بالقشرة الخارجية، دون أن يوجِّه نفس القدر إلى "تمدين الشعب وتطوير قدراتهم" .. أراد إسماعيل أن يجعل "مصر قطعة من أوروبا" .. لم تكن مصر التي يريدها إلا القاهرة، العاصمة فقط .. بل لم تكن القاهرة إلا منطقتي الجزيرة وحي الأزبكية .. منح إسماعيل الأراضي بالمجان لمن يلتزم ببناء منزل لا تقل تكلفته عن 30 ألف فرنك، وهو ما يعني بالضرورة منحها للأثرياء، فاختفت حواري الفقراء والشوارع الضيقة، وحلَّت محلها قصور الأثرياء على الطراز الأوروبي والحدائق والشوارع العريضة.. بنى داراً للأوبرا في حي الأزبكية على الطراز الفرنسي، وصارت المياه المعدنية في حمامات حلوان وصفة أوروبية لعلاج الأرستقراطيين من التخمة، فمدَّ لها خطًّا حديديًّا يربطها بالقاهرة، ونازع القاهرة الخديوية عملية التحديث على النمط الأوروبي مدينتا الإسماعيلية والإسكندرية، وتحديداً "حي الرمل"، الذي أصبح ضاحية تُزينها الحدائق الغناء، مؤهلة لسكنى رجال القطن الأوروبيين الأثرياء.
في أبريل 1861 اشتعلت الحرب الأهلية في الولايات المتحدة الأمريكية، بين ولايات الجنوب الزراعية وولايات الشمال الصناعية، وجنَّدت 11 ولاية جنوبية كل رجل بين الرابعة العشرة والخامسة والخمسين، فلم تزرع من القطن إلا قليلاً، وحتى هذا القليل منع الأسطول البحري للولايات الشمالية وصوله إلى أسواق أوروبا، فاشتدت الحاجة في أوروبا إلى القطن في مصر، وبدأت "حمى القطن" في المحروسة، ولم يعد للناس من حديث إلا عن الذهب الأبيض، الذي ارتفع ثمنه من جنيهين إلى 9 جنيهات، ورغم الرواج، لم يستفد إسماعيل وكبار الملاك من عوائده المالية، فالمشروعات التي عرفتها مصر آنذاك استهدفت مصالح أوروبا، تنمية تابعة لا تنمية مستقلة، فالترع التي حُفرت لري الأراضي المزروعة بالقطن، والمحالج لكي تهيئ المحصول للتصدير، والسكك الحديدية لنقله من مناطق زراعته إلى موانئ التصدير، والخطوط التلغرافية لربط البلاد بأوروبا.. وفارق الأسعار ذهبت للأوروبيين وليس لأبناء الشعب المصري.
الواقع .. أن ديون مصر في عهد الخديوي إسماعيل تسببت في عزله وتهيئة مصر للاحتلال الانجليزي، فعندما جاءت بعثة Steven Cave إلى مصر في ديسمبر سنة 1875، وفحصت حالة المالية المصرية ووضعت تقريرها، ولم يجئ كما يريد إسماعيل، فإنها اهتمت أولاً بمصالح الدائنين الأوروبيين عامة والإنجليز خاصة، وقدمت تقريراً أشارت فيه إلي أن سوء الحالة المالية يرجع في معظمه إلي فداحة الشروط التي عقدت بها القروض المتوالية، وإلي الإسراف في إنفاق مبالغ جسيمة في وجوه معدومة النفع، وفي حملات حربية قليلة الجدوى، أو التهمتها أطماع الأفقين السياسيين والماليين، ولاحظت فرنسا أن الحكومة الإنجليزية تريد الاستئثار بالنفوذ لدى إسماعيل، ولم تكن إنجلترا ترمي إلى النفوذ المالي فقط، بل كانت تقصد إلى ما هو أبعد من ذلك، وهو التدخل السياسي، فنشط التنافس بين النفوذ الإنجليزي والنفوذ الفرنسي، ووصل هذا التنافس إلى حاشية إسماعيل وبلاطه، ففريق كان ينقاد إلى نفوذ الإنجليز، وفريق آخر كان يميل إلى النفوذ الفرنسي، وهذا يدل على مبلغ الضعف السياسي الذي تغلغل في كيان الحكومة بسبب الارتباك المالي، ولا شك فالمال هو عصب النفوذ السياسي.
وقد اعتزمت الحكومة الفرنسية أن تعارض مسعى الحكومة الإنجليزية بمسعى مثله، فأوفدت هي أيضا أحد موظفيها، وهو المسيو Villet ليعاون إسماعيل على تنظيم ماليته، فكانت ترمي بذلك إلى ألا تنفرد الحكومة الإنجليزية بالتدخل في شئون مصر، فقدمت فرنسا مشروعا أبدى إسماعيل ميله إلى الأخذ به، فاستاءت الحكومة الإنجليزية من رجحان كفة النفوذ الفرنسي، وعارضت عمل إسماعيل بضربه آلمته، فقد كانت على اتفاق معه ألا تذيع تقرير "لجنة كيف" حتى لا يسوء مركزه المالي فلما رأت منه ميلاً إلى أتباع المشورة الفرنسية لوحت بأنها ستنشر التقرير فلما أحتج إسماعيل على إذاعته أوعزت إلى أحد نواب البرلمان البريطاني أن يسأل متى ينشر التقرير؟ فكان جواب رئيس الوزارة البريطاني بنيامين دزرائيلي أنه لا يعارض نشره وأن الخديوي هو الذي يمانع في ذلك، فكان هذا الجواب أشد وطأة من نشر التقرير، لأنه ترك الأذهان تعتقد سوء حالة المالية المصرية، وأدى ذلك إلى نزول أسعار السندات المصرية نزولاً هائلاً.
المشروع الفرنسي الذي استجاب إسماعيل له لتلبية مطالب وكلاء الدائنين الفرنسيين، هو إنشاء "صندوق الدين" في 2 مايو 1876، ومهمته، أن يكون خزانة فرعية للخزانة العامة تتولى تسلم المبالغ المخصصة للديون من المصالح المحلية، وخصص له إيراد مديريات الغربية والمنوفية، والبحيرة، وأسيوط، وعوايد الدخولية في القاهرة والإسكندرية وإيراد جمارك الإسكندرية والسويس وبورسعيد ورشيد ودمياط والعريش، وإيراد السكك الحديدية، ورسوم الدخان وإيراد المصلح (ضريبة الملح)، ومصايد المطرية (دقهلية)، ورسوم الكباري، وعوائد الملاحة في النيل، وإيراد كوبري قصر النيل، وإيراد أطيان الدائرة السنية، أي أنه خصص لسداد الديون معظم موارد الخزانة المصرية.
كان صندوق الدين أول هيئة رسمية أوروبية أنشئت لفرض التدخل الأجنبي في شئون مصر، والسيطرة الأوربية عليها، وغل سلطة الحكومة المصرية في شؤونها المالية والإدارية، وهو أداة اعتداء على استقلال مصر المالي والسياسي، لأنه بمثابة حكومة أجنبية داخل الحكومة، لها سلطة واختصاصات واسعة المدى، فقد نص المرسوم الصادر بإنشاء الصندوق على أنه يختص بـ"تسلم النقود المخصصة لوفاء الديون العمومية، ويتولى إدارته مندوبون أجانب، تندبهم الدول الدائنة ويعينهم الخديوي وفقاً لهذا الانتداب"، وقضت المادة الثانية بـ"أن الموظفين المنوط بهم تحصيل الإيرادات المتقدم ذكرها عليهم أن يوردوا ما يحصلونه إلي صندوق الدين لا إلي وزارة المالية"، ونصت المادة الثامنة على أن "الحكومة ممنوعة من تعديل الضرائب التي خصصت إيراداتها لصندوق الدين تعديلاً يفضي إلي إنقاص الوارد منها، إلا بموافقة أغلبية أعضاء الصندوق، وألا تعقد الحكومة أي قرض جديد ولا تصدر إفادات مالية على الخزانة إلا لأسباب تقضي بها حاجة البلاد، وبعد موافقة صندوق الدين"، على أنه احتفظ للحكومة بالحق في أن: "تقترض بالحساب الجاري مبلغاً لا يزيد عن خمسين مليون فرنك، للقيام بخدمة الخزانة"، ونص المرسوم علي أن: "المحاكم المختلطة تختص بنظر كل الدعاوى التي يرى صندوق الدين إقامتها على الحكومة خدمة لمصلح أصحاب الديون".
ولا جدال في أنه، من جهة الحق والقانون، لم يكن للدائنين الأجانب أن يطلبوا إنشاء هيئة مالية رسمية داخل الحكومة بهذه السلطة، وبتلك الاختصاصات، ولكن فكرة الطمع والاستعمار، وغلبة القوي علي الضعيف، هي التي أملت مشروع صندوق الدين لاستغلال موارد البلاد، وفرض الوصاية الأوروبية على ماليتها.
في ذات الوقت أدت النزعة الاستقلالية للخديوي إسماعيل في حكم مصر وتوسعاته في أعالي النيل وسعيه للتخلص من أعباء إتفاقية 1840 إلى قلق السلطان العثماني، وذلك جاء بالتزامن مع الأطماع الإستعمارية لكل من إنجلترا وفرنسا في مصر، وتحت ضغط كل من قنصلي إنجلترا وفرنسا على السلطان العثماني عبد الحميد الثاني وجد الفرصة مناسبة للتخلص من الخديوي إسماعيل، فأصدر فرماناً بعزل الخديوي في 26 يونيو 1879 وبُعث الفرمان إلى مصر عن طريق التلغراف، وقرر السلطان تولية توفيق باشا نجل إسماعيل الحكم، ثم بعد أقل من ثلاثة أعوام دخل الإنجليز مصر.
ورغم مرور نحو 143 عاما على عزل الخديوي إسماعيل، والذي توفى في 2 مارس 1895 في منفاه الاختياري بـ"تركيا"، فإنه من القلائل الذين حكموا مصر ومازال تأثير فترة حكمهم ممتد حتى الآن سواء إيجابياً أو سلبياً، ويرى محمد فهمي لهيطه في كتابة "تاريخ مصر الاقتصادي في العصور الحديثة" أن الإنشاءات هي الوحيدة التي مازالت شاهد على الديون التي أغرق إسماعيل فيها مصر وكانت سبباً مباشراً في إحتلال بريطانيا لـ"مصر" عام 1882!!.