عبدالحى عطوان يكتب :- مات الجدع ولا عزاء لأسرته
أستيقظت الزوجة على صوت طرقات ذلك الباب الخشبى للمنزل الكائن وسط الحى القديم من المدينة المترامية الأطراف، والمميز من بين كل المنازل المحيطه به، بطوبه اللبنى وإنهيار جدرانه ، وكأنه أرتسمت علية علامات شقاء السنين، بل تستطيع أن تحكم على فقرة المدقع بمجرد سقوط عينيك عليه، بدات الطرقات ترتفع رويداً رويداً حتى صارت وكأنها صوت مطرقة فوق حلى من النحاس .
هبطت الزوجه مسرعه إدراج السلم المتهالك الذى كثيراً ما أسقطها ،جاء صوتها خافتاً ضعيفاً، يحمل وهن السنين بينما وقف هو ينظر يميناً ويساراً غارق فى التفكير منذ حملته قدماه لنقل ذلك الخبر من جنوب المحافظة إلى تلك المدينة التى إدارت يوماً ما معركة مع الفرنسيين ولقنتهم درسا أثناء غزو الحملة الفرنسية، كيف يبدأ حديثه معها وكيف يقول لها، نطق بصوت أجش انا اسمى على محمود أعمل مع زوجك محمد صلاح بالصرف الصحى بقرية الرويهيب بمركز المنشاه توقف فلم يستطيع أن ينطق بباقى الجملة التى ظل يرددها طوال الطريق إجابته بأقتضاب خير ماله فى تلك اللحظه أنتاب جسدها النحيل رعشة، وشعرت بأن طلقة رصاص أخترقته لتستقر بين خلجاته، لتغرقه فى بركة من الدماء ،صرخت وهى تخبط على صدرها هل حدث لزوجى مكروه، قال والدموع تغرق عينيه،" البقاء لله" لقد أنهار عليه سقف الصرف الصحى وهو الآن قابع بالمستشفى العام، لحين التصريح بدفنه،
وقعت عليها الكلمات كارثة مدوية، فأنتابها الذهول، فلم تسعفها حنجرتها فى النطق، ولم يطاوعها صوتها فى الصراخ، وكأنها أرادت إلا تصدق الخبر، أو تسقطه من ذاكرتها، وتخيلت أنه مختبئ خلفه وانه مجرد حوار هزلى بينه وبين صاحبه ليختبرها، لحظات صغيرة وكأنها عمر طويل حاولت أن تصرخ أن تبكى أن تهيل التراب، وقفت مكتوفه مكانها ،وكأنها قيدت بسلاسل من حديد، نظرت خلفها إلى تلك الأم الطاعنة فى السن والتى تعالج يوميا من أمراض الشيخوخه، حتى باتت معالمها من معالم ذلك المبنى القديم المتهالك المنهارة حوائطه ،جال بخاطرها شريط من الذكريات دار سريعاً، وكأنه فيلم سينمائي ليسقط الآن بتتر النهاية، فقد تزوجته من ثلاثة أعوام فقط أنجبت خلالهم طفلها الأول الذى بدأ يحبو ويتلمس خطواته الأولى من أسابيع قليلة، وقبل أن تفيق من صراخه، جاء طفلها الثانى من أسبوع فقط ومازال بحضانة المستشفى والتى كانت تعد العدة للذهاب إليه بعد دقائق بعد إحضار أدويته وملابسه.
تذكرت حينما طرق بابهم لأول مرة يطلب يدها من والدها وحديثه عن ظروفه البسيطه، وإيمانه بالله، وحلمه أن يصبح مقاولاً كبيرا للصرف فى يوم من الأيام وطموحه أن يغير من حياته، وفقره ،ومعيشته، وأن يبنى منزلاً حديثاً بالحى الراقى أمامه عدد من الأشجار، وبه كافة الأجهزة ووسائل الترفيه، مثلما أرتسم فى ذاكرته من رؤيته لمنازل كبار القوم وسادته، تذكرت جملة والدها التى ما زالت محفورة فى ذاكرتها محمد راجل جدع ائتمنه عليك وأنا مطمئن .
صرخت لم أحادثه ذلك اليوم لم يوصينى ماذا أفعل اذا حدث له مكروه؟ لم يقل لى أين أذهب وكيف أتصرف ؟ فقد خرج فى ذلك الصباح مسرعاً وهو يرتدى باقى ملابسه على الباب، لم ينطق سوى بكلمات مقتضبة، قائلاً لقد تاخرت عن عملى وانت أدرى بخصم المقاول، والمولودة الجديدة تحتاج علاج وأدوية ونحن لا نملك سوى اليوميه، ساعود اخر اليوم ونتحدث ونجهز لها كل شئ .
انطلقت الصرخة مدويه من داخل صدرها بعدما ظلت مكتومة دقائق من هول الصدمه، ليتجمع الجيران حولها بدأت تلطم خدودها، تشد فى ضفائر شعرها بعدما سقط غطاء رأسها،تنظر إلى اعلى تردد يا الله تصرخ محمد مات ، لقد عاد آخر النهار فى كفنه!! لقد مات الجدع يا والدى،أين العدل يا الله ؟ أحتضنتها أحد نساء الجيران وهى تربت على كتفها ربنا يصبرك لا آله الا الله ،استغفرى لا يغلى على خالقه،ربنا يصبرك ،
لحظات وتجمع الرجال و انطلق الركب الى مدينة المنشاة لإحضار جثة محمد صلاح ذات الثلاثة وثلاثين عاماً.. عامل اليومية
فى تلك اللحظة كان المقاول الكبير قابع خلف مكتبه المكيف يرتشف قطرات قهوته المصنوعه من البن الذى أحضره معه من خان الخليلي. والموجود داخل سيارته الفارهة ويصاحبه أينما ذهب بدأ ينفخ أثير دخانه المتصاعد من حجر شيشته المزركشه نادى على ريس الانفار .أخرج من جيبه مبلغاً من المال قال خذ هذا لزوم مصاريف الدفن والجنازة ومتنساش تشوف حد ينزل الشغل بكره مكانه ....
مات محمد صلاح ولا عزاء مات قبل ان يصنفوه "عامل باليومية" ولا" تكافل وكرامه' ولا "عمالة غير منتظمه" مات قبل أن ينعم بمشاريع حياة كريمة.... مات الجدع
فهل أن الأوان أن يخرج قانون يحمى هؤلاء البسطاء ويؤمن حياة أطفالهم وأسرهم وأن يضع المقاول الكبير والدوله أمام مسئولياتهم