همسات أندلسية
الجمال قيمة تبحث عنه العيون وتنجذب إليه القلوب، والجمال ينعكس في قلوبنا يمنحها بريقا ويغسل ما قد علق بها من أحزان أو أتراح بل ويملؤ القلب بالأفراح ، لذا كان الجمال معشوق الجميع من أبد الدهر ،ودائم بدوام شروق الشمس وغروبها , حيث ترسم لوحة الجمال الأزلي في كل شروق وغروب فجمال الطبيعة الفتان يسحر القلوب ويثري العقول وتتفق له الأذهان و يدعونا إلي التأمل الذي هو عبادة الخالق المبدع واهب الجمال وذلك الجمال الحسي سواء في الوردة أو في عبقها يتخلل إليك مانحا سعادة سحرية ، والغزل هو ذلك الغرض الشعري القديم الذي ركز على تناول الجمال ووصفه والشوق إلي المحبوب ،وانقسم هذا الغرض إلى أقساما كثيرة مثل الغزل العفيف أو الغزل الصريح ولهما مسميات عدة مثل الغزل البدوي والغزل الحضري في العصر الجاهلي نجد أن القصيدة تبدأ بالوقوف على الأطلال وتشمم رائحة المحبوب والبكاء على آثاره المتمثلة في مساكن مهدمة وآثار حياة سابقة مضى عهدها وأوصلها إلى تلك الصورة الحزينة للفراق حيث يقف علي أطلال قبيلة كاملة يبحث فيها عن ظلال اللقيا وذكرى القرب يذبحه الفراق بسكين البعد تاركا له نزيف الذكريات على تلك الأطلال المهدمة .
ومن ثم تتطرق القصيدة بعد تلك المقدمة الطليلة الحزينة إلي الغزل ووصف جمال المحبوبة جسديا وروحيا ووصف إحساسه الوجداني الذي أشرق بقلبه فألهمه الغزل بل وتناثرت القصائد في عقله تترى بفعل تلك الدفعه الوجدانية للتجربة الشعرية وتمضي الأيام والسنين ولا زال الغزل سيد الأغراض الشعرية في كل العصور وقاعدته هي البحث عن الجمال و إلتماس العاطفة الوجدانية من خلال سحر الجمال الموحي بقصائد الغزل .
ولا يكون غزل بدون عاطفة ،فكما للجمال سحر فالعاطفة وحي نابض بدونها تكون القصيدة وصفا خاليا من الإحساس والعاطفة ونبض القلوب .
فالعاطفة تحيي الغزل وتبث فيه الروح فيغدو كما الغزال الجميل يقفز مسرورا بين المروج الخضراء .
والعشق ذلك الساحر الذي يقود الشغف بالمحبوب إلي محطة الغزل .
الغزل في العصر الأندلسي هو مرآة لجمال العصر فازدهار الشعر الغزلي آنذاك لم يكن وليد الصدفة بل كان صدى لسحر الجمال الموجود في الحياة الأندلسية التي تميزت بمدنها ومبانيها وطبيعتها الخلابة التي تخطف الألباب وتسحر القلوب عصر منفتح لا قيود عليه يميل إلي المجون والترف رأي المرأة سلعة أحيانا ونجمة لا تطالها الأيدي أحيانا أخري ،لكن المرأة وجمالها كانا منبعا لألهام الشعراء الأندلسيين الذين قادتهم قريحتهم المتفتقة إلي إبداع الموشحات المزخرفة والموشح الأندلسي كان فنا مميزا لهذا العصر ونشأ على يد العصر الذهبي للجمال والغزل " العصر الأندلسي" وفي ظل جمال الطبيعة الخلاب وجمال المباني والمدن وجمال الحياة والرقي وفي أجواء سماع الموشحات المزخرفة وفي ظل جمال المراة التي كانت منبعا لإلهام الشعراء كان الغزل الأندلسي علامة فارقة عبر العصور وقد يكون أيقونة غزل لن تتكرر ولن يأتي مثلها وانتشر في العصر الأندلسي ظهور الشاعرات أمثال ولادة بنت المستكفي اللاتي لم يخجلن من إبداع تجربة الغزل الرجالي الذي هو عبارة عن التغزل لجمال الرجل فكانت الطفرة الأندلسية الغزلية أن تتغني المرأة لجمال الرجل انتشرت الجرأة أو الإباحية وهذا ما ظهر في الأبيات جليا ووصل إلى حدود بعيدة ولربما كان التأثر الشديد بثقافات غربية منفتحة وسياسات الحكام التي تدعو إلي المجون أدت إلي ذلك لكنه كان طابعا خاصا أضفى للأدب الأندلسي الغزلي مذاقا ميزه عن غيره
وربما تأثر الأندلسيون بالغزل الجاهلي وبمقدمة القصيدة الطللية لكنهم عبروا حدود الزمان والمكان بانفتاح أفكارهم ووصف الإباحية والمجون والوصول بهما إلى حد المعتاد في المجتمع .
هيا بنا لندخل أجواء الأندلس الصاخبة العبقة بكل زهور الكون , استقطبت الجمال حتى ملكته فأصبحت الأندلس أيقونة العشق والجمال.
هذا هو متنبي بلاد الأندلس أحمد بن زيدون ينسج سلاسلا من ذهب خالص لكنه سائغ لمن يتذوقه ويغزو القلوب في خفة وقد عشق ولادة بنت المستكفي ونظم بها أجمل ماقيل في الغزل
إنّي ذكرْتُكِ، بالزّهراء، مشتاقا، والأفقُ طلقٌ ومرْأى الأرض قد راقَا
وَللنّسيمِ اعْتِلالٌ، في أصائِلِهِ، كأنهُ رَقّ لي، فاعْتَلّ إشْفَاقَا
والرّوضُ، عن مائِه الفضّيّ، مبتسمٌ، كما شقَقتَ، عنِ اللَّبّاتِ، أطواقَا
يَوْمٌ، كأيّامِ لَذّاتٍ لَنَا انصرَمتْ، بتْنَا لها، حينَ نامَ الدّهرُ، سرّاقَا
نلهُو بما يستميلُ العينَ من زهرٍ جالَ النّدَى فيهِ، حتى مالَ أعناقَا
كَأنّ أعْيُنَهُ، إذْ عايَنَتْ أرَقى ، بَكَتْ لِما بي، فجالَ الدّمعُ رَقَرَاقَا
وردٌ تألّقَ، في ضاحي منابتِهِ، فازْدادَ منهُ الضّحى ، في العينِ، إشراقَا
سرى ينافحُهُ نيلوفرٌ عبقٌ، وَسْنَانُ نَبّهَ مِنْهُ الصّبْحُ أحْدَاقَا
كلٌّ يهيجُ لنَا ذكرَى تشوّقِنَا إليكِ، لم يعدُ عنها الصّدرُ أن ضاقَا
لا سكّنَ اللهُ قلباً عقّ ذكرَكُمُ فلم يطرْ، بجناحِ الشّوقِ، خفّاقَا
لوْ شاء حَملي نَسيمُ الصّبحِ حينَ سرَى وافاكُمُ بفتى ً أضناهُ ما لاقَى
لوْ كَانَ وَفّى المُنى ، في جَمعِنَا بكمُ، لكانَ منْ أكرمِ الأيّامِ أخلاقَا
وها هو ابن زيدون ينظم أحزانه ولوعته علي فراق ولادة بنت المستكفي شعرا تتدفق فيه الكلمات باحثة عن دقات قلبك لتقودها إلى حيث صدق المشاعر الجياشة
إنها أشهر قصيدة أندلسية علي الإطلاق صاغها متنبي الأندلس على أنغام الفراق :
أضْحَى التّنائي بَديلاً منْ تَدانِينَا، وَنَابَ عَنْ طيبِ لُقْيانَا تجافينَا
ألاّ وَقَد حانَ صُبحُ البَينِ، صَبّحَنا حَيْنٌ، فَقَامَ بِنَا للحَيْنِ نَاعيِنَا
مَنْ مبلغُ الملبسِينا، بانتزاحِهمُ، حُزْناً، معَ الدهرِ لا يبلى ويُبْلينَا
أَنَّ الزَمانَ الَّذي مازالَ يُضحِكُنا أُنساً بِقُربِهِمُ قَد عادَ يُبكينا
غِيظَ العِدا مِنْ تَساقِينا الهوَى فدعَوْا بِأنْ نَغَصَّ، فَقالَ الدهر آمينَا
فَانحَلّ ما كانَ مَعقُوداً بأَنْفُسِنَا؛ وَانْبَتّ ما كانَ مَوْصُولاً بأيْدِينَا
وَقَدْ نَكُونُ، وَمَا يُخشَى تَفَرّقُنا، فاليومَ نحنُ، ومَا يُرْجى تَلاقينَا
يا ليتَ شعرِي، ولم نُعتِبْ أعاديَكم، هَلْ نَالَ حَظّاً منَ العُتبَى أعادينَا
لم نعتقدْ بعدكمْ إلاّ الوفاء لكُمْ رَأياً، ولَمْ نَتَقلّدْ غَيرَهُ دِينَا
ما حقّنا أن تُقِرّوا عينَ ذي حَسَدٍ بِنا، ولا أن تَسُرّوا كاشِحاً فِينَا
كُنّا نرَى اليَأسَ تُسْلِينا عَوَارِضُه، وَقَدْ يَئِسْنَا فَمَا لليأسِ يُغْرِينَا
بِنْتُم وَبِنّا، فَما ابتَلّتْ جَوَانِحُنَا شَوْقاً إلَيكُمْ، وَلا جَفّتْ مآقِينَا
نَكادُ، حِينَ تُنَاجِيكُمْ ضَمائرُنا، يَقضي علَينا الأسَى لَوْلا تأسّينَا
حَالَتْ لِفقدِكُمُ أيّامُنا، فغَدَتْ سُوداً، وكانتْ بكُمْ بِيضاً لَيَالِينَا
إذْ جانِبُ العَيشِ طَلْقٌ من تألُّفِنا؛ وَمَرْبَعُ اللّهْوِ صَافٍ مِنْ تَصَافِينَا
وَإذْ هَصَرْنَا فُنُونَ الوَصْلِ دانية ً قِطَافُها، فَجَنَيْنَا مِنْهُ ما شِينَا
ليُسقَ عَهدُكُمُ عَهدُ السّرُورِ فَما كُنْتُمْ لأروَاحِنَا إلاّ رَياحينَا
لا تَحْسَبُوا نَأيَكُمْ عَنّا يغيّرُنا؛ أنْ طالَما غَيّرَ النّأيُ المُحِبّينَا!
وَاللهِ مَا طَلَبَتْ أهْواؤنَا بَدَلاً مِنْكُمْ، وَلا انصرَفتْ عنكمْ أمانينَا