طريق الكباش .. الأحفاد يواصلون مجد الأجداد
أن تمشي وملء روحك فخرًا وعزةً، أن تنظر إلى تاريخك القديم وملاحم أجدادك من نافذة الحاضر القريب، أن تُباهي الدنيا بأنك مصريٌ، عاش فوق هذه البقعة الساحرة من الأرض، وفي هذا الكيان الحضاري المتفرد، كلها مشاعرُ تملأ وجداني وتفيضُ على كل فكرةٍ تدور برأسي، فلا أرضى سوى بالعُلا لبلادي عبر الاجتهاد والصبر والتحدي والدقة والإخلاص والوعي، وهذا الشعور ليس وليد اليوم أو أمس، بل إنه المسيطر في كل وقتٍ وحين، كلما فكرت في هذا البلد الأمين الذي لم يزل يبهر العالم كل يومٍ بالجديد والمفاجئ وخصوصًا في الوقت الراهن، الذي تتعدد فيه الإنجازات الفارقة والنقلة النوعية التي تتابع مؤشر الثواني في تحركها، فلا مبالغة إذا قلنا إننا نشهد على مدار الساعة ملامح التطور في مصر وعلى المستويات كافة، لتدفع لنا بدروس بالغة التأثير في ضرورة أن تبقي قوة الاندفاع وسرعتها باقية بتحقيق المزيد من النمو الاقتصادي والاجتماعي، والتوازي الواعي بين بناء البنية الأساسية وبناء الإنسان.
وقد اتجهت أنظار العالم كله، يوم الخميس الماضي إلى حدث ضخم وفريد يليق باسم وبهاء مصر، هذا الاسم الذي يُعبر عن ميزان الأرض وعقله وبوصلته نحو العراقة والحضارات الفارقة، حيث افتتح الرئيس السيسي وسط حضورٍ كبير الاحتفالية الترويجية والحضارية لمدينة الأقصر، احتفالا بالانتهاء من مشروع الكشف عن طريق المواكب الكبرى "طريق الكباش"، وقد شهد الحفل تنفيذ محاكاة لاحتفالات عيد "الأوبت"، أهم أعياد التقويم في مصر القديمة، ويرمز إلى "تجديد شباب ملوك الفراعنة من وحي الطبيعة"، وكان يُقام سنويًا في طريق الكباش أثناء موسم الحصاد بداية من عصر الدولة الحديثة خلال أشهر سبتمبر وأكتوبر ونوفمبر، ويربط طريق الكباش بين معبدي الأقصر والكرنك، مرورًا بمعبد موت، ويبلغ طوله 2700 متر، وعرضه 76 مترا، وتتراص على جانبيه تماثيل على هيئة أبو الهول، برأس كبش وهي «أحد الرموز المقدسة للمعبود آمون في الديانة المصرية القديمة» في المسافة بين الصرح العاشر بالكرنك حتى بوابة معبد موت.
ويأتي هذا الاحتفال المهيب والمبهر كأحد نتائج اهتمام الدولة المصرية بمسيرة البناء والتنمية الشاملة لجميع القطاعات وخصوصًا ما يميز الوجود المصري كجزء حيوي وله خصوصيته في العالم، عبر مكوناتها الأثرية والتاريخية، كما يأتي تاليا لفعالية موكب نقل المومياوات الملكية واتجاهها إلى متحف الحضارة في مشهد لا يزال عالقا بذاكرة العالم والذي شهد نقل اثنتن وعشرين مومياء ملكية، من المتحف المصرى فى ميدان التحرير إلى المتحف القومى للحضارة المصرية فى الفسطاط.
ومن بواعث الفخر أن يسهم افتتاح طريق الكباش بالأقصر في ثوبه الجديد في إنعاش حركة السياحة بشكل كبير، ويعمل على زيادة عدد السائحين، وجلب مزيد من العملة الصعبة للدولة، حيث إن مصر من أكبر الدول الرائدة في صناعة السياحة الثقافية، لما تتمتع به من تعددية على مستوى المكونات التاريخية وخصوصًا ما يتعلق بتاريخ المصري القديم الذي ترك لنا آثارا دالة على هذا الإعجاز الحضاري والعلمي في جميع مجالات الحياة، إذ تزداد دهشتنا مع كل اكتشافٍ جديد يبرز تلك القدرات المصرية في العلوم المختلفة ، فقد شُيد هذا الجزء المهم من الطريق خلال عصر الأسرة الثامنة عشرة من الأسرات الفرعونية، ثم شيد الملك نختنبو الأول، أحد ملوك الأسرة الثلاثين الجزء المتبقي من الطريق، والذى تتراص على جانبيه تماثيل بنفس الحجم تقريبًا على هيئة أبو الهول برأس آدمية وجسد أسد، وتتوسط قواعد التماثيل أحواض زهور دائرية الشكل مزودة بقنوات صغيرة لتوصيل مياه الري لتلك الأحواض، وأضيفت بعض المُلحقات للطريق في فترات زمنية مختلفة مثل استراحات الزوارق، ومقياس للنيل، وبعض معاصر النبيذ التي تُستخدم في الاحتفالات الكبرى، تلك التي كانت تُقام على الطريق مثل عيد الوادي الجميل، وأعياد الأوبت وغيرها، إضافة إلى الحمامات وأحواض الاغتسال، ومنطقة خاصة بتصنيع الفخار، وعدد من المخازن لحفظ أواني النبيذ.
إن هذا الاحتفال الضخم يعد خطوة مهمة في طريق استكمال مسيرة النهضة والتنمية في الوقت الراهن، حيث تسابق مصر الزمن للتحديث والتطلع إلى المستقبل بهيئة وبنيان قوي عبر الاستمرار في المشروعات الرائدة التي قطعا توجد وراءها إرادةٌ قوية لقيادة سياسيَّة حكيمة، تثبت للعالم كل يوم أن مصرَ قادرةٌ على أن تكون بالفعل "قد الدُّنيا"، كما يعد الاحتفال بمثابة إعلان جديد لنجاح رؤية الدولة المصرية التي تجمع بين عراقة الماضي ومعاصرة المستقبل، لتبهر العالم بإعادة بريق تاريخ المصريين القدماء وكأنه بالأمس القريب، ولتؤكد أن الاهتمام بالحضارة المصرية القديمة يعزز من قيمة ومكانة مستقبل مصر.. فمن لا تاريخ له لا حاضر ولا مستقبل له.