مولد الهدى ومكارم الأخلاق .. رسالة إنسانية إلى العالم
وُلِـدَ الـهُـدى فَـالكائِناتُ ضِياءُ.. وَفَـمُ الـزَمـانِ تَـبَـسُّـمٌ وَثَناءُ.. نعم، تبسّم الإنسان والزمان والمكان والحجر والشجر والطير والبر والبحر والجو والكائنات جميعها بمولد الهادي البشير، نبي الرحمة الذي أُرسل رحمة للعالمين، تبسم الكون وتغير التاريخ وأشرقت الأرض بنور ربها، حين وُلد المصطفى صلى الله عليه وسلم، والذي اصطفاه ربه ليكون هاديا وبشيرا وسراجا منيرا، فكان ولم يزل نبراس الهداية الذي أضاء درب الحياة للبشرية يعرفون ربهم ويؤمنون به ويعبدونه ويدعون إليه بالحكمة والموعظة الحسنة، فكان صلى الله عليه وسلم ولا يزال، معلما لأمور الدين والدنيا، وكانت ولادته مليئة بالدروس والعبر الكثيرة، ففي يوم مولده أشرقت الأرض بنور ربها وفاض النور في الأرجاء ابتهاجًا بقدومه، وقد جعل الله هلاك من أرادوا هدم الكعبة في العام الذي ولد فيه النبي الكريم، وأمطر عليهم حجارة من سجين، ليكون يومًا عظيمًا بميلاد خير البشر
وعلى الرغم مما يُثار كل عام حول الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت أن ذلك من أفضل الأعمال، وأعظم القربات لله، لأن محبة النبي أصل وواجب، وهو القائل (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده، وولده والناس أجمعين)، لكن ما الحب الذي يعنيه رسولنا الكريم؟ وقد ترك لنا عبر سلوكه في الحياة نهجا قويما نتعلم منه الأخلاق الحميدة والخصال الطيبة والصفات الحسنة من الرحمة واللين والصدق والأمانة والعدل والعفو والسماحة والحلم والشجاعة، والبشاشة والعمل الدؤوب والإتقان وجميع مكارم الأخلاق، مصداقا لقوله عليه الصلاة والسلام، "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، من هنا فإن حب محمد والاحتفاء به يعني التأسي به، والتخلق بأخلاقه، والتحلي بآدابه، ومتابعته في كل ما يؤدي إلى أن نكون من الراضين بقضاء الله في السراء والضراء، والطائعين لله (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُم).
وقد اجتمعت الأخلاق الحميدة جميعها في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتنزه عن العيوب والرذائل، فاصطفاه الله تعالى من بين خلقِه جميعا لحمل أعظم رسالة، وتعهده بالعناية والتربية قبل النبوة وبعدها وعلمه وهذبه، وأدبه فأحسن تأديبه، حتى بلغت فيه الفضيلة الذروة وصار شعلة الهدى في الكون التي نتبع ضوءها فنسعد في الدارين، وقد أثنى اللّه تعالى عليه بقوله جل شأنه "وإنك لعلى خلق عظيم"، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: "إن المؤمن ليُدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم"، و"ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حُسْنِ الخلق"، كما قال: "إن من أحبِّكم إليَّ، وأقربَكُم منى مَجْلِساً يوم القيامة، أحاسنكم أخلاقاً"، وكانت الأمانة من أهم الصفات التي عُرف بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم- حيث لُقب في قومه قبل البعثة بالأمين، وكان أهل مكة يأتمنونه على أسرارهم، وحوائجهم، وأموالهم، ولما بعثه الله سبحانه وتعالى وأمره بتبليغ الرسالة صعد عليه الصلاة والسلام، على جبل الصفا، ونادى في قريشٍ قائلاً: "أرَأَيْتَكُمْ لو أخْبَرْتُكُمْ أنَّ خَيْلًا بالوَادِي تُرِيدُ أنْ تُغِيرَ علَيْكُم، أكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟ قالوا: نَعَمْ، ما جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إلَّا صِدْقًا، فكانت الأمانة من أهم سبب زواجه بأم المؤمنين خديجة بنت خويلد - رضي الله عنها- وقد بلغها عن صفاته الخُلقية الكثير وأهمها الأمانة، وقد بادرته حين جاءها فزعاً من أول الوحي، بأن عددت مناقبه الحسنة وخلقه الجميل، فقالت: "أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق"، وقالت أم المؤمنين عائشة، عندما سُئلت، رضي الله عنها، عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم: "كان خُلُقُه القرآن"وقد تجلت الأمانة في كل مراحل حياته صلى الله عليه وسلم، حتى في الظروف الصعبة، منها عندما قرّر الخروج من مكة إلى المدينة المنورة، وقد أمر علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالبقاء خلفه في مكة ليرد الأمانات والودائع التي كانت قريش قد وضعتها عنده على الرغم من عداوتهم له، وكان صلى الله عليه وسلم رحيما بالناس والكائنات جميعا، وأرحم الناس بأمّته، وقد شهد الله له بالرحمة في قوله تعالى: (لَقَد جاءَكُم رَسولٌ مِن أَنفُسِكُم عَزيزٌ عَلَيهِ ما عَنِتُّم حَريصٌ عَلَيكُم بِالمُؤمِنينَ رَءوفٌ رَحيمٌ)، حيث فاقت رحمته صلى الله عليه وسلم الجميع، وفاقت التصورات حتى وصلت الحجر والشجر وجميع الكائنات، كما عُرف صلى الله عليه وسلم بالحلم والعفو والصفح، فلم يكن غليظاً ولا فظا ولا فحاشاً، ولا عياباً، ويقول تعالى "فبما رحمة من اللّه لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضـوا من حولك"، وقد عفا صلى الله عليه وسلم عن كفار قريش بعد فتح مكة، كما عفا عن الرجل الذي أشهر سيفه يريد قتله، وكذلك عفا عن المرأة اليهودية التي وضعت له السم، في غزوة خيبر، وعن الرجل الذي سحره، وقال أنس بن مالـك رضي اللّه عنه "خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي أف ولا:ِ لمَ صنعت؟ ولا: ألا صنعت؟"، كذلك عُرف الرسول الكريم بالتواضع، فكان أبعد الناس عن الخُيلاء والكبر متواضعاً للّه تعالى، فكان يجلس وينام على الحصير، ويقوم في خدمة أهله، ويمازح الصغار والكبار، وكان لا يحب الإطراء، فيقول لأصحابه "إنما أنا عبد اللّه فقولوا: عبد الله ورسوله"، وهنا يجدر أن نتوقف قليلا لنرى كيف أن أفضل الخلق صلى الله عليه وسلم يعطينا درسا كبيرا في التواضع وإدراكه أنه عبدلله سبحانه وتعالى، وأن هذا أكبر وأهم تكريم في الحياة للعبد، في وقت نرى البعض يحرصون كل الحرص على أن ينادوا بالألقاب وفيهم من يتكبر على الناس سواء بأسباب أو دون كالغنى والعمل والمستوى التعليمي أو الأبناء والعائلة وغيرها، متناسين أن الله هو الواهب الأعظم وأن أحب خلق الله إلى ربه كان متواضعا وشأنه عند الله كبير، كما صلى الله عليه وسلم أكرم الناس وأسخاهم ويذكر أنه اُهديت إليه بردة ولبسها، فطلبها رجل فخلعها له، والكثير من المواقف الدالة على كرمه وسخائه، فما سُئل عن شيء قط فقال: "لا"، وقد قال عبد الله بن عباس رضي اللّه عنهما: "كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان"، كما عُرف عليه الصلاة والسلام بالصبر والتحمل وكان من أشد الناس تحملا وصبراً، حيث تحمل أذى قومه في مكة حينما كذبوه وسخروا منه واتهموه بالجنون والسحر، واعتدوا عليه وحاولوا قتله، وظل متمسكاً بدينه ثابتا ينشر دعوته بين الناس.
كذلك ضرب الرسول الكريم أروع الأمثلة في العدل، فأقام شرع الله على الجميع، وهناك الكثير من المواقف التي تدلّ على أن العدل من صفاته، فعندما سرقت امرأة، وحاول أسامة بن زيد رضي الله عنه أن يشفع لها قال عليه الصلاة والسلام: (والذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ، لو أنَّ فاطِمَةَ بنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَها)، وكم رأينا النبي "صلى الله عليه وسلم"، في تعامله الودود مع الأطفال، وحرصه وعطفه على اليتامى والأرامل، واليتامى، ووصله للأرحام، والكثير الكثير من الصفات والأخلاق الحميدة التي عُرف بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي يجب علينا جميعا ونحن نحتفي بيوم مولده أن نضعها أمامنا كدليل على الهداية للطريق السليم والقويم متمسكين بمبادئنا وحب أوطاننا والإخلاص لها، فهكذا يكون حب الرسول، باتباع سنته الشريفة واقتفاء أثره والتأسي به في أقواله وأعماله، والسير على منهاجه والسلام، فهذا هو الحب الصادق.