الوزيرى وقصة بائعة العطر وقطار 682
شاءت الأقدار أن أسافر بقطار 682 قيام الساعة الثانية عشرة من القاهرة، حصلت على تذكرة بعد عناء لا أخفى عليكم سرآ من السوق السوداء، دخلت عربتى رقم 10 جلست بجوار النافذة أترقب قيام القطار، وأتابع بعيناى الرصيف والمارين به والجالسين على مقاعده، حتى لفت نظرى سماع صوت فتاه تنادى على الركاب ببيع زجاجات العطر، وإذا بالشاب الذى يجلس على المقعد الأمامي مباشرة أستوقفها،وسألها عن الأنواع والأسعار وبدأت أنتبه لأطراف الحديث، فقد كانت الأصوات عالية، والكلمات مسموعه،تشرح له نوعية هذا العطر والفرق بين هذا وذاك، وأحيانا تنطق كلمة بالفرنسية تسمية لهذا العطر فٱيقنت من لغتها أنها متعلمةجيدآ، فنظرت إليها فوجدتها وقد أكتست ملامحها بقسوة الزمن، وضربت لفحة الشمس كل بشرتها، برغم إيحاءات صوتها تبدوأ وكأنها فى الثلاثين من العمر، وسرعان ما أقنعت المشترى ببضاعتها فأشترى زجاجة من عطورها، وقد وضعت الفلوس بجيبها وغادرت مسرعه قبل تحرك القطار ،فالتفت مرة أخرى إلى النافذة أتحدث مع نفسي ومع الله على قسوة الزمن عندما يأتى على الغلابه والبسطاء بشدة ، وتخيلت مراحل العمر كم مرت على وكم حصدت من الذكريات سفرآ ذهابآ وايابآ، وكم من النماذج التى أوجعت شجوننا،دقائق معدودة وأنتبهت إلى مجئ أسرة حيث جلست فى المقعدين المواجه و المجاور لى أدركت من الوهلة الأولى أنها نوبية أو أسوانية من طبيعة البشرة ولكنة الكلمات، والسؤال عن ميعاد تحرك القطار، وكان من نصيبي أن يجلس أبن من أبنائهم بجوارى لم أعير الأمر أهتماماً فهو حدث صغير السن وساعات ونفترق وتصبح الرحلة مجرد رتوش فى الذاكرة قد تسقط مع مرور الزمن ،
نظرت إلى النافذة مرة أخرى ملقيآ راسي على مقعدى تتصارع الأفكار فى رأسي لماذا أصبحت الحياة طبقات بهذا الشكل لماذا كتب على الناس المعاناة بينما الآخرين تئن وتتوجع من شدة الرفاهية ، لحظتها ترددت كلمات عادل إمام الشهيرة دى مصر إلا يشوفها من فوق بخلاف إلا يشوفها من تحت، أسندت راسي على مقعدى وسرحت بأفكارى أحلم حتى تخيلت أنى أستقل القطار الكهربائي إلى محافظتى، وأن تصبح آلية السفر لدينا مثل أولاد الأكابر إلا أنى إستيقظت من حلمى على صوت الأخ الأكبر للشاب المجاور لمقعدى يطالبه بأخذ الدواء فأدركت أنها رحلة علاج بالقاهرة ،و سرعان ما أنتبهت إلى صوت بائع آخر ينادى ببيع زجاجات العطر ،أيضآ وقد لفت أنتباهه ذلك الراكب الذى يجلس أمامى، وهو يحمل بيدة زجاجة العطر التى أشتراها من قبل فوقف وسأله سؤالا غريباً، بكم أشتريت هذه الزجاجة من الفتاة السمراء اللون؟ وقبل أن ينطق بادره أنا أبيعها بعشرة جنيهات فأجابه الرجل أشتريتها برزق صاحبتها، فقال له بكم وأستطرد قائلاً أصلا هى تبالغ فى أسعارها كثيراً ،
فوجدت نفسي منفعلآ أتدخل فى الحوار قائلاً له ماذا يعنيك من ذلك ؟ هى باعت وهو أشترى وأرتضى ، وهذا رزقها فما الضرر الذى وقع عليك حتى تسئ إلى بضاعتها، وتذم فى ذمتها، فأجابنى قائلاً لأن هذا القطار ليس لها الحق فى ركوبه ولا البيع فيه، أنا هنا من عشرة سنوات، وهى ليس لها إلا ثلاثة شهور لكن تركناها لأجل خاطر أولادها وظروف أحوالها ،
فوجدت نفسي أنفعل أكثر قائلاً طالما الأمر كذلك ،وتعرف ظروفها ،
دعنى أسألك هل أنت حصلت على هذا القطار عن طريق إرث أباؤك وأجدادك، أم حصلت علية بمزاد علنى، أم لديك توكيل عام من وزير النقل، حتى تتحكم و تمنع أو توافق من يبيع ويشترى به،
أنت بائع متجول مثلها ، وبالقانون لا يحق لك ركوب هذا القطار، وأزعاجنا فنحن لسنا فى سوق للبيع والشراء ،وإذا كنا نحن نحتملك إلا تحتمل أنت زميلتك التى تجرى على قوت أبنائها، فدع الأرزاق على الله ولا تتصرف هكذا مرة أخرى ،
وقف صامتا مذهولا أمامى وشعرت انه يفكر بداخله ،ويسأل نفسه من أين أنا جئت له لأحرجه هكذا، فأستطردت قائلاً ياسيدى ماذا تجنى عندما لا تبيع ولا تشترى هذة المرأة وتصبح من العاطلين
أنتهى الحوار، ورجعت برأسي للنافذة مرة أخرى أملا فى تحرك القطار، ثم سرعان ما تحولت العربة الى سوق للجملة وتحول القطار الى أصوات وصراخ أختلطت مابين عروض السلع ، فهذا بائع للشاى، وهذا للسندوتشات وآخر بائع مناديل ،كروت شحن، قهوة ببييسي ، حتى كتيبات تعليم الأطفال و شواحن الهواتف وزجاجات المياه والعسلية وتسالى اللب والسودانى وخلافه
فنظرت للنافذة طويلاً وتساءلت مع نفسي هل هذه الشريحة من البشر تعرف عنها شيئاً الدولة؟ هل لديها قاعدة بيانات عنها؟ وعن ظروفها المعيشية هل توليها بالفعل أهتمامآ ورعايا ؟
هل ما يحدث داخل قطار 682 يتماشي مع الدولة المدنية الحديثة التى نراها على شاشات التلفاز وفى خطب وزيارات المسؤولين ؟
وفى النهاية لسنا ضد قطع الأرزاق ولكن مع حياة كريمة آدمية لهؤلاء مع دوله نفخر بتطورها ،وشوارعها، وميادينها ، وصورتها أمام العالم الخارجى ،
فهل يمكن أن ياتى يوم وتتحمل الدولة مسئولياتها إتجاه هؤلاء ؟