آية المحبة وآية المحنة
قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾. سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: الْآيَةُ/ 31
هذِهِ الآيةُ تُسَمَّى آيَةُ الْمَحَبَّةِ، وآيَةُ الْمِحْنَةِ؛ قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ: لَمَّا ادَّعَتِ الْقُلُوبُ مَحَبَّةَ اللَّهِ: أَنْزَلَ اللَّهُ لَهَا مِحْنَةً: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهُمْ يُحِبُّونَ اللَّهَ فَابْتَلَاهُمُ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾.
وَقَالَ الجُنَيدُ: ادَّعَى قَوْمٌ مَحَبَّةَ اللَّهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الْمِحْنَةِ: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾.
وقيل المراد بهؤلاء القَوْمِ الَّذِينَ ادَّعَوا مَحَبَّةَ اللَّهِ اليهودُ والنصاري، فإنهم الذين قالوا: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾. سُورَةُ الْمَائِدَةِ: الآية/ 18
والصحيح أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةُ فِي كُلَّ مَنِ ادَّعَى مَحَبَّةَ اللَّهِ تَعَالَى بغيرِ برهانٍ؛ فإِنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَلَيْسَ الشَّأْنُ أَنْ تُحِبّ، إِنَّمَا الشَّأْنُ أَنْ تُحَبّ، وَمَنِ ادَّعَى مَحَبَّتَهُ وَخَالَفَ سُنَّةَ رَسُولِهِ فَهُوَ كَذَّابٌ.
﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾.
الْحُبُّ وَالْمَحَبَّةُ: مَيْلُ النَّفْسِ إِلَى الشَّيْءِ، يقال: تَحَبَّب إِليهِ: أي: تَوَدَّدَ.
يقُولُ تَعَالَى: قُلْ لهم يا مُحَمَّدُ: ﴿إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾، فَعَلقَ اللهُ تَعَالَى مَحَبَتَهُ علَى اتِّبَاعِ رسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنه هو الذي دَلَّنَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، ودَعَانَا إِلَى طَاعَتهِ وَتَعْظِيمِهِ؛ فاتِّبَاعُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، طَاعَةٌ للَّهِ تَعَالَى، ومخالفة الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عصيانٌ للَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ قِيلَ:
تَعْصِي الْإِلَهَ وَأَنْتَ تَزْعُمُ حُبَّهُ
هَذَا لَعَمْرِي فِي الْقِيَاسِ شَنِيعُ
لَوْ كَانَ حُبُّكَ صَادِقًا لَأَطَعْتَهُ
إِنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ
وَفِي الآيَةِ إثباتُ صفةِ المحبةِ للهِ تَعَالَى، على الوجه الذي يليق بالله تعالى، وهي محبةٌ حقيقيةٌ، وليست مجازًا عن إرادة الثواب كما زعم بعضهم؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾. سُورَةُ الْمَائِدَةِ: الآية/ 54
﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.
فِي الآيَةِ دَلِيلٌ على أنَّ الْمَحَبَّةَ من أعظم أسباب المغفرة، بل من أعظم أسباب الفوز بالجنة؛ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَتَى السَّاعَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «مَا أَعْدَدْتَ لَهَا» قَالَ: مَا أَعْدَدْتُ لَهَا مِنْ كَثِيرِ صَلاَةٍ وَلاَ صَوْمٍ وَلاَ صَدَقَةٍ، وَلَكِنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، قَالَ: «أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ». رواه البخاري ومسلم
فدَلِيلٌ الْمَحَبَّةِ اتِّبَاعُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَثَمَرَتُهَا: مَحَبَّةُ اللَّهِ تَعَالَى، ومَغْفِرَةُ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي.