عبدالحى عطوان يكتب : حين تنفَّس القلب عهدين… الدكتوراه وصباح
لم يكن صباح ذلك اليوم يشبه أي صباح مرّ عليه من قبل. بدت الشمس وكأنها على موعد معه، أشعتها تلمع بخفة فوق الطريق المؤدي إلى الجامعة، بينما كان هو يمشي بخطوات لا تخلو من الارتباك. اليوم سيقف أمام لجنة تمنحه الدكتوراه… وتمنحه مع ذلك شعورًا بأنه يقترب من حلم آخر لم يبح بها لاحد..
عند باب القاعة، أخرج المصحف الصغير الذي أهدته له أمه قبل رحيلها والذى بهت غلافه من كثرة ملامستة عبر السنين. مرّر أصابعه عليه كما لو كان يربّت على يدها. كان وعدًا منها… ووعدًا لها. “ان ابقى .. طبيب الغلابة.”
تذكر كيف كانت تقاوم النعاس لتظل بجانبه لحظات الحديث القصير عن حلمها ..تذكر كيف كانت توقظه بهدوء لحظات نومه على أوراقه ودفاتره ..دار بمخيلتة فى رحلة طويله منذ نشأته وتجاوزه سنوات الجامعة فقد كان يحمل وعدًا آخر لم يصارح به أحدًا… وعدًا يتعلق بوجه آخر، بضحكة أخرى، بفتاة جعلت قلبه يستيقظ قبل كل صباح قبل ساعته مبتسما حالما .
صباح… نسمة القرية التي لا تشبه أحدًا.
الفتاة الجامعية التي كانت تبتسم كلما لمحته من بعيد، وكأن وجوده يعيد ترتيب نبضها.
كان يعلم أنها تبادله المشاعر… يشعر بها في طريقة حديثها، في نظرتها، في ارتباكها حين يمرّ قريبًا منها.فى محاولاتها التودد لأمه قبل رحيلها.
كانت جميلة ملفتة للنظر كلما هلت ؛ ملامح هادئة، بشرة بيضاء مضيئة، ممشوقه القوام عيناها ساحرتان تتمتع بجاذبية لافتة ،وخطوات رشيقة تجعل الهواء يدور حولها قبل أن تتقدم. لكن ما كان يربكه أكثر هو أنها ابنة الشيخ مصطفى سليم ، الرجل الذي تهابه القرية وتجلّه… والذي يجعله يتردد ألف مرة قبل أن يسمح لقلبه أن يخطو خطوة واحدة نحوها.خاصة ما يتردد على لسانه أن صباح عروسة ابن أخيه محمود الطبيب المقيم بالقاهرة .كان يعرف بداخله أنها معركة عمره فى ظل تقاليد لم تنتهى بعد !!
لحظات وقبل أن يدخل القاعة، داهمته صورة صباح مرة أخرى تخيّلها الآن…جالسة في بيتها تتابع خبره، تدعو له من قلبها دون أن تقول شيئًا لأحد.تخيل عينيها تتلألآن فرحًا لحظة إعلان حصوله على الدرجة.وكأنه سمعها تهمس من بعيد:"أنا فخورة بيك… قوي."
استيقظ من احلامة على صوت الدكتور شحاتة يناديه لبدء المناقشة.
وقف أمام اللجنة، لكن قلبه بقي خارج القاعة… بين يدَي والدته في السماء، وبين عيون صباح على الأرض.كل كلمة نطق بها، كل صفحة شرحها، كانت تحمل مزيجًا غريبًا من الوفاء والاشتياق؛ وفاء لوصية أمه، وشوق لفتاة تنتظره دون وعد مكتوب.
وعندما انتهت المناقشة، تلا رئيس اللجنة الجملة التي ستغيّر حياته:
"نبارك لكم حصولكم على الدكتوراه مع توصية النشر ."
وقف وعينيه تائهة ما بين الدموع والفرح وكأن جدران المكان اتسعت وان الحدود أزيلت أمسك المصحف بقوة، ثم ابتسم لكل اصدقائه مستقبلاً التهانى وكأنها لحظة زفافه .لم يكن انتصارًا علميًا فقط…
كان قلبه يعلن بدء قدر جديد.
خرج من القاعة، خطواته لم تحمله طائرً والهواء يصفّق حوله.
أول ما خطر بباله لم يكن الاحتفال…
بل أن يعود لقريته، يمر بدكان أم مصطفى ليستمع إلى دعواتها التى كانت تطربه بها كلما كان قادماً أو هم مغادرًا ، … سار من أمام بيت الشيخ مصطفى، علّه يرى صباح تقف على النافذة، تبتسم له كما تعوّد. نظرات عينيها ،حمرة الخجل التى تطفو على ملامحها كلما أشار باصابعه
كانت قصة الدكتوراه قد انتهت…
لكن قصة القلب ومعركته مع الشيخ مصطفى قادمة لامحالة



















