18:10 | 23 يوليو 2019

من سائس الخيول إلى عرش الملوك: صعود الدهاء فى زمن ما بعد إخناتون

10:42pm 08/11/25
أيمن بحر

فى أعماق التاريخ المصرى القديم حيث يلتقى النيل الخالد برمال الصحراء الذهبية شهدت مصر واحدة من أكثر فتراتها اضطرابًا في نهاية الأسرة الثامنة عشرة. كانت البلاد تترنح تحت صدى الثورة الدينية التى أشعلها إخناتون في نحو عام 1352 قبل الميلاد حين قلب موازين العقيدة المصرية معلنًا عبادة الإله الواحد «آتون» قرص الشمس رافضًا آلهة طيبة وعلى رأسهم «آمون» وكهنته الذين كانت لهم السلطة الروحية والمالية الكبرى.

 

هذا التحول الجذري أشعل فتنة كبرى، وترك البلاد فى دوامة من الصراع بين السلطة الدينية القديمة والملك المتمرد، حتى سقطت الدولة في حالة من الانقسام والفوضى. وبعد رحيل إخناتون، اعتلى العرش ابنه الصغير «توت عنخ آمون»، الذي لم يتجاوز التاسعة من عمره، ليكون أملًا هشًا في استعادة التوازن. لكن القدر لم يمهله طويلًا، إذ رحل في سن الثالثة عشرة دون وريث، لتجد الملكة الشابة «عنخ إس إن آمون» نفسها أمام عرش بلا ملك، ومؤامرات تحيط بها من كل صوب.

 

في تلك اللحظات الحرجة، كانت التقاليد تحظر على النساء الحكم منفردات، وكان لزامًا على الملكة أن تختار زوجًا من الدم الملكي ليحكم باسمها. لكن دماء الملوك كانت قد تفرقت في الفتن، والكهنة الغاضبون من إخناتون وأفكاره كانوا يتربصون بالعرش. حاولت الملكة التمسك بخيط النجاة الأخير، فكتبت سرًا إلى ملك الحيثيين «سوبيلوليوماس» في الشمال، ترجوه أن يرسل أحد أبنائه لتتزوجه، وتجعله ملكًا على مصر. خطوة لم يجرؤ أحد قبلها على التفكير بها، إذ كان الزواج من أجنبي بمثابة تسليم مفاتيح العرش إلى الغزاة.

 

لكن القدر كان يُحضّر مشهدًا أكثر درامية…

 

من بين ظلال القصر، خرج رجل لم يكن من نسل الملوك ولا من سلالة الكهنة، بل كان مجرد سائس خيول في الإسطبلات الملكية، يُدعى آي. ذلك الرجل الذي صعد بذكاء مريب عبر دهاليز السلطة، حتى صار مستشارًا قويًا للملك الطفل، يعرف كل الأسرار ويملك مفاتيح القصر. التقط آي خيط الرسالة قبل أن تصل إلى هدفها، وأدرك أن فيها فرصة ذهبية للصعود إلى قمة الهرم.

 

وحين وافق الملك الحيثي على إرسال ابنه «زانوناز» إلى مصر، أعد آي كمينًا محكمًا على الحدود، فأُوقف الأمير وقُتل في الصحراء قبل أن تطأ قدماه أرض النيل. ثم وقف آي أمام الملكة المذعورة، ملوّحًا بالرسائل التي يمكن أن تُدينها بالخيانة. بصوت يقطر سمًّا، قال لها:

«يا ابنة الشمس، إن علم الشعب بسرّك، فسيعتبرونك خائنة، ولن يكون لكِ مكان سوى أعماق النيل».

 

وأمام الخوف من الفضيحة والموت، رضخت الملكة، وتزوجت من آي في زواج قسري أعلن نهايتها. وبعد أسابيع قليلة، اختفت عن الأنظار إلى الأبد. قيل إنها ماتت مسمومة، وقيل إن يد آي نفسها أغرقتها في النيل، ليطمس آخر أثر لمن قد يطالبه بالعرش.

 

وهكذا، من الإسطبل إلى القصر، من غبار الخيول إلى بريق التيجان، اعتلى آي العرش، متوشحًا التاج المزدوج، معلنًا نفسه ملكًا على مصر. حكم بالحديد والنار، أعاد بعض النظام، لكنه ترك وراءه ميراثًا من الدم والريبة.

 

ولم يدم عرشه طويلًا، إذ أطاح به القائد العسكري العظيم حورمحب، الذي أعاد الجيوش إلى مجدها وأغلق صفحة الاضطراب الديني والسياسي. ومع سقوط آي، طويت آخر فصول أسطورة الرجل الذي تجرأ على الملوك وصعد على أكتافهم ليجلس على عرشهم.

 

لقد كان آي تجسيدًا لعصرٍ تحكمه المؤامرة أكثر من القداسة، ولعنة المعبودات التي لا ترحم من يطمع في مجدها. من سائس خيول إلى عرش الملوك، كتب آي اسمه على جدران التاريخ بحروفٍ من دهاءٍ ودمٍ، ليبقى شاهدًا على أن العروش لا تُمنح دائمًا لأبناء الملوك، بل أحيانًا، تُنتزع بذكاء العبيد.

تابعنا على فيسبوك

. .
paykasa bozum