السيف الذى وحد الشام: كيف مهد عماد الدين ونور الدين زنكى الطريق لصلاح الدين
فى أعماق الشام: قصة السيف الذى أعاد الوحدةفى أيام الثلاثين عامًا الأولى من الغزو الصليبى حيث كانت أبراج القلاع الصليبية ترتفع كأبراج غريبة على تلال الشام الذهبية، برز رجل من الشرق كنجم يضيء الظلام. كان اسمه عماد الدين زنكي، حاكم الموصل، ذلك الرجل ذو العينين الحادتين والقلب الذي ينبض بإرادة الجهاد. لم يكن مجرد أمير يحكم إمارة صغيرة؛ بل كان قائدًا يوسع نفوذه تدريجيًا، يضم مدنًا مثل حماة وحمص إلى عرشه، يبني قوة من الرمال والحديد ليحمي المنطقة.ثم جاء اليوم الذي غير مسار التاريخ: عام 1144م، حيث وقفت إمارة الرها – تلك المدينة الصليبية الأولى التي أقيمَت قبل عقود – تحت حصار محكم. كانت الرياح تحمل رائحة الغبار والتوتر، وأصوات الرماح تتصادم كالرعد. براعة زنكي العسكرية والسياسية أذهلت الجميع؛ فبعد أسابيع من الضغط الدؤوب، سقطت أسوار الرها، وعاد المدينة إلى الحكم الإسلامي. كانت تلك اللحظة صدمة للصليبيين، إذ كانت الرها رمزًا لتواجدهم، مما أثار قلق أوروبا البعيدة. صاح قادتهم: "يجب أن نتحرك الآن، قبل أن يتغير كل شيء!"في روما، حيث يلمع تاج البابا تحت أضواء الشموع الذهبية، رفع أوجين الثالث صوته في عام 1147م، يدعو إلى حملة صليبية جديدة لدعم الوجود الصليبي في المنطقة. كان النداء كالريح العاتية، يجمع الفرسان والرهبان والحجاج تحت راية الصليب. انطلقت جيوشان هائلتان، كل منهما تضم سبعين ألف مقاتل، بالإضافة إلى عربات المؤن والحشود المتعبدة. الأولى يقودها كونراد الثالث، إمبراطور الرومان المقدسين، ذلك الرجل الشجاع الذي كان يحلم بمجد الإمبراطوريات القديمة. والثانية بقيادة لويس السابع، ملك فرنسا، الذي غادر قصوره ليواجه المجهول. كانت الحملة أضخم ما شهدته أوروبا في ذلك العصر، جيشًا يهز الأرض بأقدامه، يتجه نحو آسيا الصغرى كعاصفة بشرية.لكن الطريق إلى الشام لم يكن سهلاً. في سهول دوريليوم، عام 1147م، اصطدم جيش كونراد بالسلاجقة كالصواعق. كانت الرماح السلجوقية تطير كالسهام، والفرسان ينهارون تحت وطأة الهزيمة الساحقة. فر كونراد، مصابًا في جسده وروحه، وعاد جيشه ممزقًا، تاركًا الحملة تتمايل كسفينة في عاصفة قبل أن تصل إلى الشاطئ. ومع ذلك، واصل الصليبيون تقدمهم بإصرار، حتى وصلوا إلى دمشق في عام 1148م. كانت المدينة تحت حكم السلطان برهان الدين زين الدين، حليف نور الدين زنكي، ولم تكن في صراع مباشر مع الصليبيين. لكن الصليبيين، في قرار استراتيجي خاطئ، قرروا حصارها، محاصرين أسوارها الحصينة بجيوشهم المنهكة.وفي تلك اللحظات الحرجة، برز اسم آخر يخطفه التاريخ: نور الدين زنكي، ابن عماد الدين، الذي تولى قيادة الموصل وحلب بعد وفاة أبيه عام 1146م. كان نور الدين شابًا في الثلاثين، ذا لحية سوداء كالليل وعقل حاد كالسيف، ورث إرث أبيه لكنه أضاف إليه نار الإيمان والذكاء. عندما سمع بمحاصرة دمشق، لم يتردد؛ جمع جيوشه كالأنهار المتدفقة، وسار نحو المدينة كالريح الجنوبية. في يوليو 1148م، اندلعت المعارك الضارية حول الأسوار: سهام تتساقط كالمطر، وصرخات الفرسان تملأ الهواء. نجح نور الدين في كسر الحصار، مضربًا الصليبيين بالهزيمة، فانسحب كونراد ولويس إلى أوروبا بخيبة أمل، تاركين وراءهم حملة لم تحقق أهدافها. بقيت الرها تحت الحكم الإسلامي، شاهداً على فشل الحملة.لكن نور الدين لم يكن من الذين يستريحون على الغرور. استغل زخم النصر ليبني وحدة لم تعرفها الشام من قبل. في عام 1154م، بعد سنوات من المفاوضات الدبلوماسية والتحركات العسكرية الدقيقة، ضم دمشق إلى دولته، محولاً إياها إلى عاصمة قوية في مواجهة الصليبيين. كان ذلك الإنجاز بداية عصر جديد؛ عصر زعيم إسلامي يوحّد الصفوف، يمهد الطريق لتلميذه صلاح الدين الأيوبي، الذي سيحمل السيف نفسه ليحمي المنطقة.وهكذا، لم تكن الحملة الصليبية الثانية مجرد فشل عسكري؛ بل كانت قصة تحول، حيث أشعلت نار الوحدة الإسلامية، وأعادت رسم خريطة الشام بدماء الأبطال وإصرار الرجال الذين رفضوا الخضوع. في أرض الشام، حيث تروي الرياح قصص السيوف والأحلام، بقيت هذه الملحمة تذكيرًا بأن التحديات تولد القوة، والصراع يثمر الوحدة.
















