باحثة دكتوراه جامعة قناة السويس

بين الحقيقة والرمز: قراءة في البعد الفلسفي والتاريخي .. بين مسرحيتي السلطان الحائر والملك هو الملك
في زمن تعصف فيه الأسئلة المصرية بالوجدان العربي, وتتشابك فيه الحقيقة بالتأويلات, يبرز المسرح كواحد من أكثر الفنون قدرة على تفكيك الواقع, عبر استدعاء الماضي لا بوصفه أرشيفًا ساكنًا, بل كمادة خام يعاد تشكيلها في ضوء الحاضر. ولعل من أبرز التجارب المسرحية التي مزجت بين الحقيقة التاريخية والفلسفة الرمزية مسرحيتا" السلطان الحائر" لتوفيق الحكيم, و"والملك هو الملك" لسعد الله ونوس, حيث تتحول الوقائع التاريخية إلى مرايا تعكس أسئلة السلطة والهوية والحرية, وتغدو الشخصيات التاريخية رموزًا لصراعات فكرية لاتزال تتجدد.
التاريخ كأداة رمزية: المسرح في مرآة الفلسفة
منذ بدايات المسرح العربية الحديث, سعى كبار الكتاب إلى استخدام التاريخ كوسيلة للتحايل على الرقابة تارة, وكأداة تأملية لطرح قضايا معاصرة تارة أخرى. لم يكن الغرض تقديم صورة واقعية للماضي, بل إعادة توظيفه في سياق رمزي وفلسفي. ومن هنا اتخذت المسرحية التاريخية المعاصرة شكلًا هجينيًا, تتضافر فيه الوقائع مع الأسطورة, والرمز مع الفكرة, بما يحرر النص من حدود الزمان والمكان, ويمنحه قابلية للتأويل السياسي والاجتماعي.
في هذا الإطار تنتمي مسرحيتا "السلطان الحائر" و"الملك هو الملك" إلى ما يمكن تسميته "بالمسرح الفلسفي ذي الخلفية التاريخية", حيث لا تروى الأحداث من أجل التأريخ, بل من أجل مساءلة المفاهيم الكبرى كالعدالة, والشرعية, والهوية, والسلطة.
فنجد في مسرحية "السلطان الحائر" لتوفيق الحكيم, إنه يستعير شخصية السلطان الذي يتخلى عن عرشه ليختبر معنى السلطة خارج عباءتها الرسمية. تدور المسرحية حول معضلة فلسفية عميقة: هل تأتي الشرعية من القوة أم من القانون؟ ومن الذي يحق له أن يحكم؟ هل الشرعية تأتي من داخل (الضمير) أم من خارج (السيف)؟
يتحول السلطان إلى متسول في الأسواق, في صورة أشبه بالمتصوف السياسي ويبدأ بمراقبة الناس من بعيد, متأملًا في
بيعة السلطة التي كان يملكها. في المقابل,يظهر القاضي الذي يمثل سلطة القانون, في مقابل الجلاد الذي يمثل سلطة السيف, وفي ظل هذا الثلاثي: السلطان, القاضي, الجلاد, تتولد ثنائية فلسفية كبرى بين الحكم العادل والحكم القوي.
ما يميز هذه المسرحية أن الحكيم لا يقدم إجابات, بل يفتح باب الشك, ويترك المتفرج أمام حيرة السلطان ذاته, في نوع من الديالكتيك الفلسفي الذي يجعل من كل شخصية تمثيلًا لوجه نظر أعمق من ظاهرها.
"الملك هو الملك": سعد الله ونوس ونقد البنية السلطوية
أما في "الملك هو الملك", يذهب سعد الله ونوس إلى مزيد من التعرية السياسية, في تجربة تنتمي إلى ما يمكن تسميته"بالمسرح السياسي الرمزي". يدور النص حول مهرج ينصب ملكًا على سبيل المزاح, فإذا به يتحول فعليًا إلى حاكم مطلق, لا يختلف في سلوكه عن الحاكم السابق.
الفكرة الجوهرية التي يبني عليها "ونوس" مسرحيته هي أن السلطة لا تغير بنيتها مهما تغير الأشخاص, فالجكم السلطوي ينتج نسخته من أي فرد بمجرد دخوله في دوائر القوة. وتتحول الحكاية, التي تبدأ بطابع فكاهي خفيف, إلى تراجيديا سياسية تسخر من قابلية الإنسان العربي للخضوع والتماهي مع الاستبداد.
يستخدم ونوس اللغة الساخرة, وتقنية المسرح داخل المسرح ليمنح النص طابعًا إيهاميًا مزدوجًا: فالمتفرج يدعى للضحك, لكنه يفاجأ بأنه يضحك على نفسه. وهنا يتحول التاريخ من مجرد خلفية للحدث, إلى إطار رمزي يكشف الاستعصاء البنيوي في ثقافة الحكم العربي.
التقاطع بين المسرحيتين: من التاريخ إلى الحاضر عبر الفلسفة
رغم اختلاف السياقات الزمنية واللغوية بين العملين، إلا أن كليهما ينطلق من حقيقة تاريخية (وجود ملك أو سلطان) ليبني فوقها بنية رمزية تأملية. في "السلطان الحائر"، يبدو السلطان كمن يخوض تجربة "غاندية" في اختبار السلطة خارج أدواتها، بينما في "الملك هو الملك" يتحول المهرج العفوي إلى طاغية، فقط لأنه ارتدى تاجًا.
هذا التناقض يضيء الفكرة المشتركة: السلطة لا تتحدد بالشخص، بل بالبنية، وبأن الشرعية ليست مطلقة، بل رهينة الوعي الشعبي والقانوني والسياسي.
وفي كلا العملين، لا يوجد زمن تاريخي دقيق، رغم ما توحي به الأسماء والبيئة. ذلك أن التاريخ هنا ليس توثيقًا بل استعارة. والسلطان ليس حاكمًا من الماضي، بل سؤالًا فلسفيًا حيًا عن من يحكم ولماذا؟. والملك ليس حاكمًا في قصر، بل صورة مقلوبة للمواطن الذي يمكن أن يصبح جلاده.
الرمزية الفلسفية بوصفها نقدًا للحقيقة التاريخية
يمثل النصان مثالًا على كيف يمكن للمسرح أن يستخدم التاريخ لا ليحاكيه، بل لينقضه، أو بالأحرى ليعيد تشكيله على أسس رمزية وفكرية. فالتاريخ، وفقًا للحكيم وونوس، ليس سردًا خطيًا بل نسيجًا رمزيًا يسمح بإعادة كتابة الأسئلة، لا الأجوبة.
في هذا السياق، يمكن القول إن المسرحية التاريخية تتحول إلى مرآة مزدوجة: فهي تُظهر الماضي في صورته الخادعة، لكنها تكشف الحاضر في جوهره العاري. وهذا هو جوهر المسرح الرمزي أن يصنع من القناع أداة كشف، ومن الزيف وسيلة لقول الحقيقة.
وأخيرً, متى نخرج من دائرة الملك والسلطان؟
بين "السلطان الحائر" و"الملك هو الملك"، تتقاطع الأسئلة الفلسفية مع الحقائق التاريخية، لخلق مساحة مسرحية غنية بالجدل والتأمل. وإذا كانت الرمزية في المسرحين قد نجحت في خلخلة الصورة التقليدية للسلطة، فإن التحدي اليوم هو: هل يتغير الإنسان العربي إذا تغير الحاكم؟ أم أن الحاكم يتجدد لأن البنية لم تتغير؟
هكذا يبقى المسرح، رغم الرموز والخيال، أقرب إلى الحقيقة من آلاف الخطب. لأنه لا يصف العالم، بل يعيد بناءه بلغة الأسئلة. وتبقى أعمال توفيق الحكيم وسعد الله ونوس شاهدة على قدرة الكلمة المسرحية على الغوص في أعماق الفكر، والتاريخ، والإنسان.