الذهب والدَّين.. فقه المعاملة وعدالة القانون"

في زمن تتقلب فيه الأسواق وتتذبذب فيه أسعار العملات، بات الناس يبحثون عن ملاذ آمن يحفظ لقيمة المال هيبتها. فانتشر سؤال محوري بين أفراد المجتمع:
هل يجوز إقراض المال واتفاق الطرفين على ردّه بسعر جرام الذهب وقت السداد؟
وهل ذلك يُعد ربا؟ أم يُعتبر من باب المعاملة الجائزة شرعًا؟ وما موقف الشريعة الإسلامية؟ وماذا يقول القانون المصري؟
في هذا المقال، نحاول عرض المسألة من جوانبها الفقهية والاجتماعية والقانونية، بدقة وموضوعية، وبما يخدم القارئ في دينه ودنياه.
أولاً: تصوير المعاملة
يأتي شخص إلى آخر ويطلب منه اقتراض مبلغ مالي (مثلًا 10 آلاف جنيه)، ويتفقان على أن يُردّ المبلغ بسعر جرام الذهب يوم السداد، أي أن الدين لا يُردّ بالقيمة الاسمية، بل بالقيمة التي تعادل وزن الذهب عند سداد الدين.
مثلًا: إن كان سعر جرام الذهب يوم الإقراض 2000 جنيه، فإن 10 آلاف جنيه تساوي 5 جرامات. ويُتفق على أن يُردّ الدين بقيمة 5 جرامات من الذهب يوم السداد، أيًا كان سعر الجرام في حينه.
فهل هذا جائز؟
ثانيًا: الحكم الشرعي بالتفصيل
1. القرآن الكريم:
قال تعالى:
"يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافًا مضاعفة، واتقوا الله لعلكم تفلحون" [آل عمران: 130]
"وأحل الله البيع وحرّم الربا" [البقرة: 275]
"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين" [البقرة: 278]
الآيات تنهى عن الربا وتتوعد عليه بالعذاب الشديد، وتجعله من الكبائر. والربا في القرض يكون عندما يشترط المقرض منفعة – مثل الزيادة أو ربطه بسعر الذهب – وهو ما يسمى ربا النسيئة وربا الفضل.
2. السنة النبوية:
عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ:
"الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، سواءً بسواء، يدًا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد."
[رواه مسلم]
الحديث يوضح أن الذهب لا يُباع إلا بمثله، يدًا بيد، فإذا زاد أحد الطرفين أو تأخر في التسليم – كما في حالة الدين – كان ذلك من الربا المحرّم.
3. الإجماع
أجمع علماء الأمة على أن القرض الذي يُشترط فيه زيادة أو منفعة – كربطه بسعر الذهب أو بأي عملة متغيرة القيمة – ربا محرم.
قال ابن المنذر:
"أجمعوا على أن المسلف إذا شرط على المستسلف زيادة أو هدية، فأسلف، أن أخذ الزيادة ربا."
4. القياس:
القياس الشرعي يربط هذه الصورة من المعاملة بمسألة بيع العملة بالعملة مؤجلًا مع تفاوت القيمة، وهو من أظهر صور الربا.
فما دام المقرض سيستفيد من تغيّر سعر الذهب لصالحه، فقد جرّ القرض نفعًا مشروطًا، فيُمنع شرعًا.
ثالثًا: أقوال العلماء المعاصرين
قال الشيخ ابن باز رحمه الله:
"إذا أقرضه مالًا واشترط عليه أن يردّ له قيمته بسعر الذهب وقت السداد، فهذا من الربا المحرم، لأن القرض لا يجوز أن يُشترط فيه ما فيه منفعة للمقرض."
وقال مجمع الفقه الإسلامي الدولي (قرار رقم 13/1/2):
"ربط القروض بالقيمة الشرائية أو بسلعة معينة أو بعملة أجنبية يُعد من الربا إذا شُرط في العقد، ولا يجوز شرعًا."
رابعًا: هل يجوز الإقراض بالذهب؟
نعم، إذا أراد أحد أن يُقرض غيره ذهبًا (سبائك مثلًا أو مصاغًا)، فله ذلك بشرط:
أن يكون القرض ذهبًا حقيقيًا.
أن يُردّ بنفس مقدار الذهب، وزنًا وعيارًا، وليس بالقيمة.
أن يكون يدًا بيد عند السداد.
خامسًا: الموقف القانوني في مصر
من الناحية القانونية، القانون المصري – في المادة (227) من القانون المدني – يُلزم المدين بسداد الدين النقدي بالمبلغ الاسمي، ولا يعترف بتغيّر قيمة العملة أو الربط بسعر الذهب إلا إذا نصّ العقد بوضوح على ذلك.
وهنا نواجه إشكالًا:
لو تم الاتفاق شفهيًا على ربط الدين بسعر الذهب، فإن المحكمة ستحكم بالمبلغ المدون في السند فقط.
أما إذا تم توثيق العقد كتابة، ونُص فيه على "ردّ الدين بما يعادل قيمة الذهب وقت السداد"، فقد يُؤخذ به قضائيًا كدَيْن مدني باتفاق خاص، لكن يظل محل طعن لأنه يخالف القواعد الآمرة في بعض الأحيان.
ملاحظة هامة:
حتى لو أنصفك القانون، فإن المعاملة نفسها شرعًا باطلة لوجود شرط ربوي، والربا لا يُحلّه القانون.
سادسًا: الحل المشروع المقترح
إن أردت الحفاظ على قيمة مالك، فاشترِ به ذهبًا أو عقارًا وأعطه للمحتاج على سبيل البيع بالتقسيط.
أو أقرضه ذهبًا فعليًا (سبائك)، على أن يُردّ لك نفس الوزن.
الخلاصة:
ربط القرض بسعر الذهب عند السداد محرّم شرعًا لأنه ربا ناتج عن منفعة مشروطة للمُقرض.
يجوز الإقراض ذهبًا بذهب بشرط الوزن والتسليم يدًا بيد.
القانون المصري قد لا ينصف من يربط القرض بالذهب إلا بعقد موثق ومحكم، ومع ذلك لا يُغير من الحكم الشرعي شيئًا.
الحلال بيِّن والحرام بيِّن، ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعِرضه.
"ومن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا"
[الطلاق: 2]