المكتبة التي تحلم بالقراءة

حين تستيقظ الرفوف في الظلام
في الزاوية المنسية من مدينةٍ لا أحد يتذكّرها، تقف مكتبة قديمة كأنها تنتمي لزمنٍ آخر.
جدرانها متشققة لكن لا تسقط، ورفوفها مائلة لكنها لا تنكسر، وكتبها مغطاة بطبقات من الغبار، كأنها ترتدي عباءة الصمت الملكي.
عند انتصاف الليل، تبدأ رفوفها بالاهتزاز الخفيف... لا خوفًا من الريح، بل شوقًا لمن يقرأ.
إنها لا تنام، لأنها تحلم. والمكتبة التي تحلم ليست جدرانًا من خشب، بل كائن يتنفس بالحروف ويتوق لأن يُصغى إليه.
مناجاة بين دفّتين
"أين القارئ؟"
هكذا تسأل رواية لم تُفتح منذ سبعين عامًا.
يردّ عليها ديوان شعر قديم بنبرة متهكمة:
"ذهبوا يبحثون عن المعنى في الشاشات، وتركونا هنا نموت على مهل!"
بين دفّتين، يسكن قلبٌ نابض. الكتب ليست أوراقًا ميتة، بل أرواح حُبست في جلود الحبر، تنتظر قبلة عين تُحييها.
ثمّة كتبٌ تتنفس.
وثمّة كتبٌ تنتحر من الوحدة.
المكتبة: كائن من شوقٍ قديم
لو كانت المكتبة جسدًا، لكان عمودها الفقري رفًا من الفلسفة، وقلبها كتابًا صغيرًا لم يُقرأ بعد.
لو كانت المكتبة امرأة، لكانت عجوزًا حكيمة تحمل في صدرها رسائل حبّ لم تُرسل.
في كل ركن منها، هناك ذاكرة لأصابع قرأت، وعين دمعت، وفكر تغيّر.
لكن الزمن الآن بارد.
الناس تركض، والكتب تنتظر.
والمكتبة؟ تحلم فقط...
تحلم بأن يُعاد إليها المعنى.
الكتب تتكلّم حين لا نكون
هل تعلم ما يحدث حين تُطفأ الأنوار؟
الكتب تتحدّث!
كتاب تاريخ يسرد هزائم الأمس لرواية خيال علمي تسخر منه وتقول: "ما زلتَ تؤمن بالماضي؟ المستقبل لي!"
وديوان غزلي يغازل مجموعة مقالات مهترئة بصوتٍ رقيق: "أحببتك لأنكِ واقعية..."
لكنّها لا ترد. إنها تعرف: العاشقون لا يقرؤون الواقع.
من يقرأ من؟
سؤال مخيف ومُلهم:
هل نحن الذين نقرأ الكتب، أم الكتب هي التي تقرأنا؟
كلّ كتاب نلمسه يترك فينا أثرًا. تغيّر بسيط. التواء في الروح. فكرة لم تكن.
ربما حين نفتح كتابًا، ينظر في داخلنا: "هل يستحق هذا القارئ أسراري؟"
ثم يقرر إن كان سيفتح قلبه، أو يبقى جمادًا بين يدينا.
المكتبة كقصيدة تنتظر قارئها
المكتبة ليست مكانًا، بل مقام.
هي تراتيلٌ من صمت، وأناشيد من غبار، وصرخة مكتومة في حناجر الورق.
حين يدخلها قارئ حقيقي، يتحوّل هو الآخر إلى كتاب:
وجهه عنوان، وعيناه مقدّمة، وما بين أضلعه فصولٌ لم تُكتب بعد.
في الختام: رجاء ورجفة
يا من تقرأ هذا المقال، إن مررت يومًا قرب مكتبة، حتى وإن كانت مغلقة…
قف.
حاول أن تصغي.
قد تسمع همسة كتاب يقول: "اقرأني، ولو مرة… قبل أن أموت."