18:10 | 23 يوليو 2019

عبدالحى عطوان يكتب: الذكريات وحديث ساعة الرحيل

1:21pm 15/03/25
عبد الحى عطوان
عبدالحى عطوان

قادته قدماه عندما أحس بقرب النهاية، فقد دنت ساعة الرحيل حسب آخر التقارير الطبية، إلى الغيط الذي أخذ من عمره سنوات وسنوات، منذ شب وعرف طريقه ما بين الري والزرع والحصاد.. جلس على حافة الترعة واضعاً يده فوق أحد خديه يفكر في تلك النهاية، فقد امتلأت الذاكرة بالصور المتلاحقة منذ الطفولة، أخذته الذكريات إلى الماضي البعيد، حينما بدأت تشتد سواعده، تذكر حينما وقف أمام أخيه محمود عندما همّ بالسفر والرحيل لإحدى الدول العربية، وحديثه: "لا تترك أرضك بوراً أو عطشى، اجعلها كل رأس مالك، فهي عرضك وقوتك"، من لحظتها والفأس لا تفارق يده كلما اتجه إليها.
عاد بذاكرته للأيام الأولى، ها هو الخال مندور يمسك بيديه الحبل المتدلي من عنق بقرته، ويقوم بالدوران معها حتى تدير الساقية ذات الأذرع الخشبية والموجودة أسفل تلك الشجرة ، فقد غطت فروعها المكان، كم كانت ملجأ للجميع من قيظ النهار وشدة الحرارة، نتهافت عليها لنأخذ من حبات التوت الملونة باللون الأحمر والمتساقطة منها، لنأكل دون أن نفكر في غسيلها، خرجت تنهيدة تشق خلجات صدره، فما زالت تلك الصور والذكريات محفورة بالذاكرة أعواماً.القرية بكل معالمها وبيوتها وملامح الحياة الجافة بها منذ كانت تعانى من انعدام الخدمات وكأنها شيئاً منسيًا من ذاكرة الحكام .
ها هو فرح أختي خديجة التي تكبرني بعامين، كم كانت حنونة تشفق عليّ حينما أعود حاملاً فأسي فوق كتفي، وملابسي متسخة بالطين، ما زال يرن في أذني صوتها لحظة مجيء تلك الخياطة وبناتها بالطابق الثاني لتأخذ المقاسات وحياكة الفساتين، استعداداً لليلة زفافها، فلم يكن الجاهز قد غزا منازلنا بعد! وها هو المنجد يضرب بعصاه الطويلة القطن الموضوع أمامه على تلك الحصيرة الملونة بالخطوط الزرقاء، وصوت المسجل الذي يشدو بالأغاني يشق منازل قريتنا، وقدوم الناس لتهنئ وتبارك، ومنهم من يحمل في يديه ذلك البراد العتيق من الشاي.. الزغاريد تجلل دارنا حتى الليلة الموعودة، حينما علقنا الميكروفون ذا الصحن الكبير على سور الطابق الرابع لأحد حوائط منزل عمي مسعود، والسماعة أمام المسجل لشدو الأغاني، حتى جاء المنشد وفرقته، فقد تجمع كل سكان القرية أمام دوار العائلة، تتعالى الضحكات حتى تخترق الآذان، والأيادي ممسكة بأكواب الشاي، ذلك المشروب الوحيد الموجود على كل موائد أفراحنا، وها هو ابن عمي موسى يتراقص بالعصا حاملاً الجرّة فوق رأسه بمهارة حتى صفق له الحاضرون!!  
أين ذهبت تلك الأيام والليالي؟ أين ذهبت اللمة؟ وقيمنا واخلاقنا؟ وأين الجد والخال والعم الذي كنا نقف أمامهم بالساعات؟ أتذكر ذلك الشاب ابن العم سيد الذي أنهى تعليمه، حينما شاهد قدوم خاله رمضان وضع سيجارته في جيبه وهي مشتعلة حتى ظهرت بوادر الدخان، وشم الجميع رائحة حريق جلبابه، وصار الكل يعرف قصة سيجارته حتى أصبحت أشهر رواية بين الشباب.
انتبه من ذكرياته وصور الماضي قليلاً على صوت أحد المارة، وهو يلقي بالتحية، تذكر سبب مجيئه إلى هذا المكان، فقد دنت ساعة الرحيل، وأراد الوداع، تتزاحم الأصوات الغاضبة المرتبكة داخله، حاملة التشاؤم الثقيل الذي لا يُحتمل، ورؤى مغيمة، وغضب مسعور، وخوف من النهاية، فالحياة في الآونة الأخيرة أشبه بالعاصفة التي لا تهدأ، تحمل كثير من الظلمات التي تثقل على الصدور وتخنقها وتجعل اليأس يتفجر ليهوي بالروح إلى الجحيم، فقد هزمه المرض، كل الاشياء تبدّلت! لماذا أصبحت الحياة غاصة بلاعبيها ومهرجيها وأنذالها وفرسانها وضحاياها؟
لماذا باعدت الهموم بين الناس واختفت الضحكة من فوق الشفاه؟ لماذا أصبحت الليالي رهيبة؟ يتضافر فيها الخوف، والفزع، والقلق، والانتظار، الصمت والحنين والذكريات الكارثية، والأمنيات والاشمئزاز، والملل، لماذا صار الجو غائماً ومعتماً بارداً؟ لماذا تغلغل اليأس منا حتى أصبح شللاً للنفس وموتاً سقيماً؟  
قد يكون اليوم نهايتي أو غداً، وإن طال العمر أياماً حسب تقارير الأطباء، لكن لا تطيلوا التحديق في الحزن، لا تدخلوا منطقة الظلام، فالأشباح السوداء التي تعشعش فينا تقتل الروح، لا تتركوا الظلمات تبتلعنا وتجثم على كل شيء، دعوا الإحساس بالحياة ينتصر، جدّفوا دائماً ناحية الضوء، اجعلوا أصواتكم مفعمة بالأمل فالغد سيحمل حتماً نهاراً آخر وحلماً جديداً.
أنتفض واقفًا مغادرًا ذلك الغيط الذى أخذ من عمره سنوات، ما بين الزرع والحصاد ، فقد أحس بقشعريرة تسرى بين ثنايا جسدة، فقد جثمت الذكريات فوق صدره ،لكنه بتفاؤل غريب صنع لنفسه روحا جديدة، أخذته طائرة إلى الأماكن التى أحب إلى قلبة، إلى داره ودار أخته خديجة، وكأنه مازال شاباً يافعاً، يشدوا بالأغانى والصلوات مؤمنًا بإرادة الله .
 

تابعنا على فيسبوك

. .
izmit escort batum escort
bodrum escort
paykasa bozum
gazianteplie.com izmir escort
18 film izle erotik film izle
deutsch porn