حين تضيع البوصلة: كيف استبدلنا القضايا الكبرى بسجالات الغيب؟ بقلم : احمد عزيز

في مقهى صغير عند ناصية المدينة، يجلس رجلان يتجادلان بحماسة. الأول يحلف بأن أهل الجنة يرون الله رؤية العين، والآخر يصرّ على أن الأمر مجازي. ترتفع الأصوات، تحتدم الحجج، وتكاد الطاولات تنقلب. على بعد آلاف الكيلومترات، هناك وطن يُقتلع، مقدسات تُدنّس، ودماء تسيل، لكن ذلك لا يبدو موضوعًا يستحق الجدل في ذلك المقهى العربي.
هكذا صار حالنا، نغرق في تفاصيل الغيب، نتقاتل على قضايا الغد، بينما تشتعل النار في حديقتنا الخلفية، ولا يكترث أحد لإطفائها. ليس في الحديث عن الجنة والنار إشكال، فالإيمان بالمصير من جوهر العقيدة، لكن حين تصبح هذه القضايا محور اهتماماتنا، ونترك ما يجري حولنا، نصبح كما قال المتنبي:
إذا غامرتَ في شرفٍ مرُومِ … فلا تقنعْ بما دونَ النجومِ
لكن يبدو أننا تركنا الشرف المرُوم، ورضينا بالجدال عن عدد أبواب الجنة وطبقات النار، وكأن حلّ أزماتنا يكمن في هذه التفاصيل، وكأن الأمة لن تنهض إلا بعد أن نحسم إن كان أهل الجنة يأكلون بأيدٍ مرئية أم نورانية!
الانصراف عن القضايا الحقيقية
بينما ينهمك البعض في النقاشات الهامشية، يواصل العدو مشروعه الاستيطاني، يبني جدارًا، يهدم بيتًا، يعتقل شابًا، ويخطّط لمستقبل ليس فيه مكان لنا. وماذا نفعل نحن؟ نفتح المناظرات حول "هل الموسيقى حرام؟"، و"هل يجوز الترحم على غير المسلم؟"، وكأننا حُرّرنا القدس ولم يبقَ إلا تصفية حسابات الفقه.
أليس من المخجل أن تكون مواقع التواصل العربية مليئة بالنقاشات عن لون لباس أهل الجنة، بينما شوارع فلسطين تغرق بالدم؟ أليس عجيبًا أن تستنفر الفضائيات لمناقشة فتوى عن حكم تهنئة غير المسلمين، بينما لا تكاد تجد منابر جادة تناقش خطط مواجهة التطبيع أو سبل دعم المقاومة؟
تحويل الصراع إلى شأن غيبي
ربما يكون من أخطر ما أصاب وعينا العربي أننا حوّلنا المعارك الأرضية إلى معارك ميتافيزيقية. بدل أن نواجه إسرائيل ككيان استيطاني استعماري، أصبح البعض يتحدث عنها باعتبارها "علامة من علامات الساعة"، كأن الصراع مقدّر، ولا طائل من مقاومته، وكأننا متفرّجون على مسرحية إلهية، لا فاعلون في مجريات التاريخ.
في الماضي، حين احتلّ الغرب أوطاننا، قاوم أجدادنا بالسيف، بالكلمة، بالثورة. واليوم، بدل أن نواصل النضال، نقنع أنفسنا بأن الأحداث تُدار من السماء، وأن دورنا الوحيد هو الانتظار.
إعادة ترتيب الأولويات
الأمم العظيمة تنهض حين تعرف أولوياتها، وتنهار حين تضيّع بوصلتها. نحن بحاجة إلى إعادة النظر في أولوياتنا، إلى استعادة وعينا، إلى أن نفهم أن مصيرنا لن يُحسم في غرف الفقهاء المتنازعين، بل في ميادين العمل والفكر والجهاد السياسي والثقافي والاقتصادي.
صحيح أن الأسئلة الغيبية لها مكانها، لكن لا يجب أن تتحول إلى قيد يشلّ تفكيرنا عن الواقع. نحن بحاجة إلى نقاشات جادة حول التعليم، حول الاقتصاد، حول مقاومة الاحتلال، حول مستقبلنا كأمة. لا يمكن أن نبقى أسرى لأسئلة الغيب، بينما العالم يتحرك، ونحن نراوح مكاننا.
ختامًا
في النهاية، المعركة ليست بين الدين والعقل، بل بين الوعي الحقيقي والزيف، بين من يدرك أن الدين جاء ليحرّكنا لا ليجمّدنا، وبين من يريده مخدرًا ننام عليه. وما لم نستفق، فسنظل نجادل عن نعيم الجنة، بينما جحيم الأرض يزداد اشتعالًا.