الشيخوخة: الوجه الآخر للزمن

في زاوية مهملة من العمر، حيث تصير الأيام حكايات من غبار الشمس، تجلس الشيخوخة متربعة على عرش الزمن، تنظر إلينا بعيون هادئة، كأنها تملك سر الحياة الذي لم نفهمه بعد. ليست الشيخوخة تجاعيد تزحف على الوجه أو انحناءة تسرق من الظهر قامته المستقيمة، بل هي نص مكتمل، كتبته السنوات بمداد التجربة، ولم يُقرأ بعد على نحوٍ صحيح.حين كنا صغارًا، بدت لنا الشيخوخة سجنًا زمنيًا، مكانًا موحشًا يصل إليه من فقد بوصلة الشباب. كبرنا قليلًا، فأدركنا أنها ليست فقدانًا بقدر ما هي اكتسابٌ بطيء، ليست تراجعًا بل نوعٌ مختلف من التقدم. في قلبها يكمن الإدراك العميق، ذاك الوعي الذي لا تدركه العيون المتعجلة، حيث تصير الذاكرة متحفًا، والصمت كتابًا، والوقت نافذة تُطل على كل شيء دون عجالة.
لكنّ الشيخوخة ليست قيدًا زمنيًا كما يظن البعض، بل هي شكلٌ آخر للحياة، مرحلةٌ تهب الإنسان فرصةً نادرة لمراقبة المسافة التي قطعها، والتأمل في الطريق الذي سلكه، دون أن تحرقه نار الحماسة الأولى. كأنها مساحةٌ للهدوء بعد سباقٍ طويل، لحظةٌ تسبق الغروب حين تتوهج السماء بأجمل ألوانها قبل أن تحتضنها العتمة.
الزمن ليس خصمًا كما نتصوره، بل هو رفيقٌ يسير معنا، يعطينا، يأخذ منا، لكنه لا يسرق شيئًا إلا ليعطينا مقابله فهمًا أعمق. في شبابنا، نحارب الشيخوخة كعدوٍ قادم، نخشى أثرها، نهرب منها إلى مساحيق التجميل والألوان الزائفة، ثم نكتشف أنها لم تكن سوى وجهٍ آخر للحياة، وجهٌ نقيّ، بعيد عن الأقنعة، صادقٌ حدَّ الصمت.
في لحظاتٍ نادرة، قد تصير الشيخوخة حكمةً متجسدة، شعرًا أبيض يضيء لا ليخفي الظلام، بل ليكشف الطريق لمن لم يفهمه بعد. هي ليست انتظارًا للنهاية، بل بدايةٌ لقراءة القصة التي كُتبت على مهل، حكايةٌ طويلة بدأت بولادة، وتنتهي بوعي كامل أن لا شيء يضيع، كل شيء يتحول، وكل خطوة، حتى وإن بدت ثقيلة، تحمل في طياتها درسًا جديدًا عن الحياة.
الشيخوخة ليست النهاية كما يظن البعض، بل هي المرحلة التي تُسدل فيها الحياة ستارها ببطء، فتتجلى أعمق معانيها. هي وقتٌ يُختزل فيه العمر في لحظاتٍ قصيرة، حيث تتكثف الذكريات كضوء الشفق قبل أن يحلّ المساء. إنها ليست موتًا مؤجلًا، بل حياة مكتملة، امتلأت بالتجارب حتى فاضت بالحكمة.
وفي لحظة ما، حين يكون الجسد قد أثقله الزمن، والروح قد تهذبت بالصبر، يجلس العجوز في شرفته، ينظر إلى الأفق بعينٍ راضية، لا يخشى ما هو آتٍ، فقد عبر نهر الحياة كله، وخاض أمواجه المتلاطمة، وها هو الآن يصل إلى الضفة الأخرى، حيث لا ضجيج، حيث السكون العميق، حيث الزمن يكشف عن وجهه الحقيقي، ليسعد من أدرك أن كل شيء كان يستحق العيش، حتى لحظات الانحناء الأخيرة.