عبدالحى عطوان يكتب: امرأة على حافة الضياع

تنبهت تلك الزوجة المسكينة لأول مرة لحالها، فقد تغيرت ملامحها بدون سابق إنذار، وطفت علامات الشيخوخة على شعرها المسترسل على كتفيها، وسرحت التجاعيد حول رقبتها ووجنتيها، حاولت أن تمارس ما اعتادت عليه لسنوات طويلة، أن تجلس داخل شرفتها وتحتسي كوباً من الشاي، وتقضي الساعات في مراقبة المارة والسيارات، وأن تستمع إلى صراخ وضجيج الشارع، فلم تستطع، فقد بدأ يقتلها الملل مع وحشة الحياة، فالليلة شتوية ممطرة ملبدة بالغيوم، هبت واقفة من فوق كرسيها، وأغلقت خلفها الباب بعدما أحست بقشعريرة البرد تسري في أطرافها لتمتد إلى جسدها النحيل.
نظرت وكأنها بلا عيون، شاردة مشتتة الفكر، تتأمل الأشياء داخل حجرتها كأنما تراها لأول مرة؛ حوائطها الباهتة الألوان، الدولاب المتهالك الذي ضاعت ملامحه، الصور المعلقة الدالة على الذكريات، والمصباح المتدلي الذي يتمايل بإضاءته، المروحة التي يكسوها التراب، التلفاز ذو الجوانب الخشبية، التسريحة المكسور زجاجها وكأنها تحالفت مع القدر لتحيل دون وقوفها أمامها منذ سنوات.
ألقت بجسدها النحيل فوق السرير القديم ذي العمدان النحاسية، والذي مضى عليه زمن طويل ما عادت تذكره، تكورت داخل جسدها واضعة يديها حول رأسها لتشعر قليلاً ببعض الدفء، حاولت أن تغمض عينيها، ولكن نبضات قلبها المتسارعة ورجفة أعضائها وانتفاضة عروقها جعلت من نومها المستحيل، سرحت بذاكرتها للوراء، فقد تدفقت الذكريات دون إرادتها.
جال بخاطرها تلك اللحظات الأولى بعد انتهاء الدراسة بالسنة النهائية من تعليمها الجامعي، وفرحتها حينما غادرت أبواب الجامعة وهي تحمل بين يديها شهادتها، تخطو خطواتها وكأنها فراشة طائرة بين حدائق الزهور، تحادث نفسها، فهي الأميرة بين أركان قصرها، فكل شيء مختلف؛ الطبيعة الرائعة، نسمات الهواء، حفيف الأشجار، شعرها الذي يتمايل فوق كتفيها، جمال فستانها، وأناقتها وشموخها وكأنها تمزق أحشاء الأرض، إحساسها الدفين بالسعادة الغامرة، لم تشعر بنفسها حينما قبلت تلك المتسولة التي اقتربت منها تطلب المساعدة وكأنها تقبل أحد أفراد عائلتها.
توارد الماضي أمامها بكل ذكرياته، أحلامها الجامعية، وكتاب ألف ليلة وليلة، طرحتها البيضاء، وذلك الفارس الذي يختطف أميرته الجميلة من بين الأسوار الشاهقة ليحملها على حصانه الأبيض، حتى تلك اللحظة ما زالت عالقة بالذكريات التي جاء فيها وطرق بابهم وجلس بينهم مبهوراً بها، مثل صياد عثر على لؤلؤته الثمينة، فقد فتنته أنوثتها الطاغية، وحديثها الذي ينم عن ثقافة عالية، فهي تعشق كل الأشياء، العزلة والجنون.
انتفضت قليلاً من نومها وعدلت من وضع قدميها، فقد تذكرت حينما كانت أصابعه تضغط على يدها المرتجفة الباردة، فكل ما كانت تتمناه لحظتها الطمأنينة أو صدر رجل يحمل إليها أمان الشواطئ عندما ينهكها مصارعة متاعب الحياة اليومية، فقد أرادت مستقبلاً هادئاً، يجنبها قلق الخوف وخواء الضياع.
وقفت تنتفض، فقد أحست بالرعشة تسري بين جسدها، بل تمنت أن تهرب خارج هذا المكان الخانق لتتنفس بحرية بعيداً عن القيود، تعود إلى وجه أمها الذي ينبض في ذاكرتها، شفاف رقيق الملامح، تحيطه تلك الهالة السحرية من حنان ودفء وأمان، افتقدته حتى درجة الحرمان، فقد باعدت المسافات بين ذاكرتها، وطفولتها، وزواجها، ورحلة مرضه منذ إصابته بذلك السرطان اللعين، ووفاته بعدما أنفقت كل شيء، وباعت كل ما تملكه. وبين لحظة وضحاها حصلت على اللقب الأعظم "أرملة المرحوم".
خطت خطوات بين جدران الغرفة في محاولة للخروج من تلك الذكريات، إلا أنها لم تستطع، فكل شيء يطاردها، يذكرها؛ أدوية الاكتئاب، القلق والخوف والمرض، فقد ضاعت كل الأحلام، وانتهت إلى أن تحولت حياتها إلى امرأة حبيسة تلك الجدران، رقماً منسياً بين التعداد، تحاصرها الديون، وتنتظرها جدران السجن، فقد أصبحت بلا ماضٍ، أو حاضر، أو مستقبل، بل إحدى الغاريمات.