عبدالحى عطوان يكتب: موظف الأرشيف ونهاد وحكاية عشرة سنوات (جزء ثالث)
مرت الأيام ثقيلة على صلاح وبرغم كل محاولاته للنسيان إلا أن اللقاء الأخير مع نهاد ما زال عالقًا برأسه بكل تفاصيله، ملامح وجهها الباهت ونظراتها الزائغة ويديها المرتجفتين،وخاصة كلماتها الأخيرة حينما قالت: "مررت بتجربة مريرة خرجت منها مهزومة بغربة وكابوس وجسد عليل وفقدان ابن وضياع عشرة سنوات من عمرى حتى صرت كدمية من دون ملامح"، فما تحملته فاق حد الاحتمال ظلت تطارده تلك الكلمات ليال طويلة لم ترى فيها جفونه النوم، ومع أول ظهور للشمس في تلك الليلة والتى قضاها في حوار دائم مع نفسه عن تلك الأسئلة الحائرة، وسر اختفائها عشر سنوات والتي لم يسئمها طوال تلك المدة أو يكرهها، فما زالت بذاكرته كل الأشياء، فقد اعتاد يصافح ذكراها كل ليلة بشخابيط قلمه الرصاص على أوراق أجندته الملونة حتى لا تتوه ملامحها وسط الخيوط المتشابكة التي رسمتها ظروف الحياة.
قرر بعد صراع طويل أن ينازع بقايا الخوف داخله، ويتخلى عن نطاح العقل مع القلب، ويقطع على نفسه ذلك الصراع الذى صنعه اللقاء الأخير والذى أطل بملامحه وأعاد إلى حياته حلم لم يتحقق، وبعد تردد طويل قرر أن يعرف تفاصيل عشر سنوات لم تسقط من ذاكرته لحظة، فخرج من مخبئه مسرعًا بعدما دوّن من على ملفها كل البيانات وأزاح كومة الأوراق التى عمل عليها المفتشين طوال اليوم، وأغلق تلك الغرفة بعدما كتب إذن خروج وغادر مسرعًا يقطع المسافات بحثًا عن حلمه القديم، قدماه تسابق خطواته، يركض ويبطئ من سرعته؛ فالصراع الداخلي يكاد يدفعه للجنون، يقطع عليه كل خواطره وظنونه وعشرات الأسئلة تدور برأسه، هل تخلت عنه من أجل المال؟ هل سافرت خارج البلاد؟، هل تزوجت مجبرة أم برغبتها؟ هل ذهبت قصائد الحب هباء الرياح؟ وألف هل أطلت عليه كطلقات الرصاص، كان يقاطع كل سؤال بإجابة بداخله وكأنه يخلق إليها ألف عذر وعذر حتى بدا يحاسب نفسه بذنبًا لم يرتكبه، فزادت الدهشة من ملامحه وكأنه شعر بالجنون.
اقتربت أقدامه من المنزل الذي تقطنه نهاد، تسارعت دقات قلبه وزادت الدهشة من ملامحه وكأنه شعر بالجنون، فماذا يقول؟! ولماذا جاء وهو لا يعرف من بالداخل؟! فتلك مدينة كبيرة غير مدينته لا يعرف ملامح أحد من سكانها أخذ جرأة من شجاعتها وطرق بابها، خرجت وكأنها تنتظر قدومه نظرت إليه طويلًا دون أن تتحدث، بينما هو تاه في نظراتها التي غاص فيها ليالٍ طويلة تسربت إليه بوخز عنيف في نفسه،، اقترب منها ليتأكد أنه ليس بحلم، صافح يديها في لهفة في محاولة لاستجماع قواه أو يهدئ من عاصفة النوة التي ضربت خديه بدموع كالأمطار، تأملها وتأمل ملامحها التي حاولت أن تخفيها خلف الغيم الممطر أو تبعدها عن أشعة الشمس، بينما هو ظل محدقًا يئن من الآهات المكتومة بصدره، تتسارع آناته حتى كادت تفضح قلبه المحترق شوقًا، دعته للدخول فلم يكن بالبيت سوى أمها التى ترقد على فراشها طريحة المرض.
جلسا معًا وقبل أن يهم بالسؤال بادرته بالكلام، تريد أن تعرف رحلة العشرة أعوام؟، هز رأسه مجيبًا، قالت ووجهها طفى ملامحه الحزن: هل تذكر ذلك الخليجي الذى جال بشوارع قريتنا وخرجت عنه الحواديت والحكايات أنه ثري عربي يبحث عن عروس جميلة؟ أنا يا سيدي من وضعها القدر فى طريقه فقد عقد أبي الصفقة ليزف الدمية الصغيرة إلى كهل عجوز تزهو ملابسه البيضاء وتغلق سيارته أبواب شارعنا، وقتها حسدني أقرانى عليه، ولم يدركوا أنها مخالب وأشواك سوف تنقض على فريستها حتى أصبحت تجلدها يوميًا بالتوبيخ والتحقير والضرب والتعذيب بكل الألوان، فأنا سلعة تم شرائها من سوق النخاسة لا قيمة ولا ثمن لها، ظللت معه عشرة أعوام جارية فى بلاطه بل خادمة لزوجته الأولى التي تملك كل شيء.
حاولت الهروب النجاة وكيف وأنا لا أملك حتى إثبات هويتي؟! أو حتى تذكرة الطائرة التي أعود بها، لا أنكر أنه كان كريمًا مع أهلي فى البداية حتى تمت الصفقة وعبورنا درجات المطار، وتحول إلى وحش تبدلت رائحة عطره بسلوكه الشاذ وألفاظه ومعاملته لي كبقرة ابتاعها من سوق المواشي، تجربة مريرة أنجبت خلالها ابن حُرمت منه لم أراه عدد من المرات، وعندما أصابني المرض أعادنى لأهلى ذليلة كسيرة كقطعة بضاعة فقدت صلاحيتها، فحاولت أن أقف على قدميّ وافتح مشروعًا صغيرًا اقتتات منه والذى فتحت له ملف ضريبي لديكم، وقبل أن تُنهي حديثها التفت إليه متسائلة عن عشرة أعوام من عمره تركته دون أن تعرف شيئًا عنه...
تابعونا في الجزء الرابع .......
الاسبوع القادم
ومفاجأة نهاية حكاية موظف الأرشيف ونهاد..