عبدالحى عطوان يكتب: موظف الأرشيف ولغز اختفاء نهاد (جزء ثان)
لم يصدق صلاح موظف الأرشيف عينيه عندما رآها في طرقات المأمورية، فقفز خلفها حاول أن يستوقفها؛ ليعرف سر اختفائها طوال هذه السنين بينما هي شعرت بارتباك شديد عندما أحست بمصافحته وحرارة يديه، فأدارتملامحها لتبعد عينيها عن نظراته، وهي تسابق خطواتها مغادرة متفوهة ببعض الكلمات القليلة، دون أن تنظر إليه، حاول أن يمسك يديها يجذبها إليه، ارتطمت بأحد المارة من شدة اضطرابها دون أن تقصد، اعتذرت له بلطف ثم استدرات هربًا من كل الذكريات التى تواردت بمجرد رؤيته، فلم تستطع أن تواجه ملامح وجهه التى كستها الدهشة وصنعت كل علامات الاستفهام، أو لهفته وأسئلته التي أمطرها بها منذ وقوفها أمام غرفته حتى وهي تهم مغادرة كان يطاردها بكل قوة حتى يكتشف الجزء الضائع من عمره.
كانت نهاد منذ البداية تدرك فشل العلاقة بينهما فعشقهما صورة من العشق الممنوع، فالحواجز التى تفصلهما أكثر من حدود قربهما، ومع ذلك أحبت كل تفاصيلها، فلم تشعر بنفسها أو أنوثتها الطاغية إلا من خلال نظراته حينما يتفحص جسدها الممشوق، وشعره وشوقه كلما مرت من أمامه ذهابًا وإيابًا، فقد اعتادت كلمات الغزل التي تبرز نضوجها ومفاتنها خاصة لحظة لقائهما بعد مجيئه من الجامعة كل أسبوع، ترددت كثيرًا قبل أن تصارح نفسها بأنها أُغرمت به، تمنته فلم تستطع أن تبتعد عنه طوال سنوات تعليمه بالجامعة، حتى فترة انشغاله بإعداد مشروع التخرج الخاص به، كانت تنتظر على شوق، ميعاد عودته تتابع كل التفاصيل من بعيد حتى أحيانًا كانت تخاطر وتسأل صديقتها ياسمين، زميلته بنفس التخصص، عن كل أحواله دون أن تبالي ماذا تقول عنها، فقد أرادت أن تكون شريكته طول العمر..
لم تستطع أن تقاوم كثيرًا فقد خارت قواها أمام إلحاحه المستمر، وقررت أن تواجه صوته الذى كاد أن يُبح من كثرة أسئلته عن اختفائها وقفت وألقت بظلال عينيها عليه، وقالت: ماذا تريد أن تعرف؟ أتسالني لماذا بعد كل هذه السنين؟ في محاولة أن تخفف غضبه الذى بدا في عينيه ونبرته، متسائلا: لماذا رميتي كل شيء خلفك وكأنه مجرد ذرات غبار نثرتها الرياح فطارات كحبات المطر؟ لماذا جعلتيني أدمنك وأدمن كل شيء معك؟ قصائد الشعر وتغريد العصافير ورقص الأشجار حتى زرقة السماء كنت أراها قطعة من عينيكي ضربت بقدميها هي الاخرى لتعلن عن غضبها المكتوم بين صدرها حتى تحول خفقان قلبها المفطور إلى زلزال بين جوانحها امتزج بصرخة ألم مدوية، شقت ظلمة أعماقها حتى شعرت بقشعريرة تسري بين يديها المرتجفتين، حاولت أن تتوارى تهرب حتى يخمد الحريق الذى بدأ يلتهمها دون رحمة فقد تخاذل عقلها عن استيعاب ذلك اللقاء وأمر القدر..
تنهدت قليلًا وزاغت بعينيها تحدق في الأفق؛ تبحث عن بقايا الأمل المودع للحياة، وكان شيئًا عاد يتدفق بين ثنايا روحها المكلوم من جديد، قالت تلك هي الحياة تبدأ وتنتهي ونستمر فيها ونحن نطرق أبواب أقدارنا المكتوبة على جدرانها ولا نقرؤها إلا في حينها ولا شيء يبقي أبديًا مهما طال عمره، قاطعها قائلًا: ما يسكن القلب لا تباعده الأزمنة ولا المسافات، نظر إليها وهو ينفث دخان سيجارته المتهالكة بين أصبعيه دون اكتراث متصنعًا الهدوء، مغرقة عيناه بالدموع التي تحولت من الجمود إلى الانصهار، ممسكًا انفلات رجفات جسده، علت نبرات صوته وعيناه تراقب ملامحها، لا تزال تسكنين بكل ثنايا القلب وكأن الأمس هو اليوم، ألقى ببقايا سيجارته ليدهسها بقدميه، قاطعته بتنهيدة طويلة وعينين زائغتين قائلة: لا يزال قلبي كسير فقد خضت تجربة مريرة، خرجت منها مهزومة بغربة وكابوس وجسد عليل وفقدان ابن وضياع عشرة سنوات من عمري، حتى صرت كدمية من دون ملامح، فما تحملته فاق حد الاحتمال، دعني أتعافى وليكن بيننا للحديث بقية، فقد تعود الروح تسكن ديارها التي هاجرتها، أو لا تعود فاطلق لى العنان ربما يكون فى العمر عمر يحقق لي حلمًا يرد كسرة الروح.