عبدالحى عطوان يكتب: صلاح وأرشيف مأمورية الضرائب
لم يكن صلاح ابن الحج عبد الباسط يتخيل أن نهاية أحلامه الجامعية ستكون داخل حجرة صغيرة معتمة بالطابق الثاني لمبنى مأمورية الضرائب الكائنة بأحد شوارع المدينة الصاخبة، والمكونة من خمسة أدوار، والمعلق عليها لافتةبعنوان "الأرشيف"، والتي يكمن داخلها عدد من الملفات ذات الأغلفة الصفراء، والمكتوب على كل منها حرف هجائي، ورقم متسلسل، وسلم صغير لا يزيد طوله عن مترين، ومبرد مياه، ومروحة سقف، وغلاية صغيرة للشاى موضوعة على أحد الرفوف، وكأنها مدفونة داخل شرنقة حتى لا يراها المدير العام، وشباك صغير تنفذ منه أشعة الشمس لدقائق معدودة ثم تنزوي.
كان عمله يقتضي وجوده يوميًا منذ الصباح حتى الثانية ظهرًا ليظل غارقًا بتلك الغرفة ما بين أرفف الملفات المطلوبة لموظفي المأمورية، وصراخ المفتشين بالاستعجال، خاصة المفتش رفعت الذى كان طلبه دائمًا أشبه بالمشاجرة، فإذ لم يقم بتنظيمها وترتيبها؛ لتحولت إلى ساحة معركة حربية كان هو الخاسر الوحيد فيها، فلم يسقط من ذاكرته أبدًا ذلك اليوم الذى ضاع فيه أحد الملفات المهمة لمنشأة، واتهام رئيس المأمورية له بالإهمال والتواطؤ، وتحويله للتحقيق وتوقيع الجزاء والخصم عليه، فقد ظل أعوامًا كثيرة يجاهد حتى يمحو أثره من حكايات الزملاء وثرثرة العمال بين المكاتب.
وبينما كان ذات يوم معلقًا على سلمة لإحضار أحد الملفات برقت عيناه باتساع حدقتيه، فلم يتخيل أنها هي فقفز خارج غرفته غير مبالٍ بقوانين عمله أو فقدانه أحد الملفات، طار مسرعًا خلفها فلم يصدق نفسه حينما رآها تسير بين طرقات المأمورية، فقد كانت نهاد ابنة الشيخ عبد الجواد غرامه القديم، حلمه في ليالٍ خريفية كثيرة تراقصت بين رسائلهم أوراق الشجر طربًا، أراد أن يصرخ يناديها فلم تنسيه الأيام والليالي البطيئة أو زواجه نبضها الذى نبت داخله، فقد أدمن شجنه الدائم لها، بل عشق وجودها داخله كل هذه السنين منذ دق الشوق أوتاده فى جسده الفتي لأول مرة، فلم ينسي ابداً حينما كان عائدًا من الجامعة بالفرقة الأولى وتقابلا وجهًا لوجه أمام طاحونة عم حسن الغفير، وتبادلا أطراف الحديث، وقد لمح في عينيها بريقًا لم يره من قبل، حتى جعلته تلك الفرحة، التى تأججت بصدره، أسيرًا لها، فظل منذ لحظتها يتابع خطواتها ونمو جسدها وبروز مفاتنها وأنوثتها الطاغية، فلم يخفي أبدًا غيرته عليها، أو نظراته التي كانت تفضحه كلما داعب تكوينها الأنثوي، أو التهمت عيناه قميصها المسدل على ساقيها، وكانه موجة من الضباب الأبيض، كان عائشًا على حلم عنقاها ذات يوم عناقًا قويًا لا يخدش أنوثتها ورونق ملامحها.
لم يكن يتخيل أن بعد فراقهما سنوات واختفائها طويلًا أن مجرد رؤيتها جعلت من بقايا الأشجار الربيعية داخله ترتدى أثوابها الخريفية الزاهية، فقد بدت وكأنها إحدى ملائكة الرحمن، حاول أن يدنو منها، فآلاف الأسئلة بلا إجابات، عصافير الجنون تعربد بعقله؛ هل يحتضنها، يختطفها، ينكش بأصابعه في خصلات شعرها،
اقترب منها مناديًا برغم تشنج أطرافه وأشباحًا كثيرة تحول بينهما، التفت للخلف قليلًا فقد أحست بوجوده، تلاقت عيونهما، حاول أن يبتلع لعابه بصعوبة، استسلمت يداها بين يديه حتى شعرا بالعري بين كتل من البشر، حاول أن يخرج من لعثمته، أن يذكرها بالأيام الخوالي، يشعرها بأن غرفتها لا تزال خالية، لكنها قبل أن ينطق بأسئلته، استدارات مسرعة لتنزع فتيل الكلمات بينهما، وتُنهى ألف احتمال واحتمال دار بعقله.لكنه لم يتركها تهم مغادرة في محاولة أن يحل لغز اختفائها...
تابعونا فى الجزء الثانى ....